معركة الأمعاء الخاوية.. "الموت جوعًا" ثمن آخر للحرب يدفعه السودانيون
كان العشاء الأخير الذي جمع غيداء محروس، 50 عامًا بشقيقتيها، وذلك في منتصف ليلة 15 يوليو/تمُّوز 2023، إذ فوجئوا في صباح اليوم التالي بحصار تام لحي الدناقلة شمال الخرطوم بالسودان، وانقطع عنهم الغذاء والماء بعدما قُصفت محطة مياه الحي في إحدى الغارات وبات عليهن الذهاب إلى البحر لجلب الماء إلا أن الحصار منعهن.
مرّ أول ثلاثة أيام وهم يعيشون على فتات الطعام المتبقي دون قدرة على الخروج لجلب طعام أو ماء: «كانت القوات منتشرة في كل مكان وتقتل من يخرج من منزله»، إلا أن الطعام أوشك على النفاد والماء لم يعد يكفي رغم تقاسمهم لوجبة واحدة كل 48 ساعة واقتسام قنينة ماء كل يوم.
في اليوم الخامس من الحصار نفد كل شيء: «شقيقتي الكبرى تبلغ من العمر 70 عامًا بينما الوسطى 60 عامًا، كلاهما يحتاج إلى الماء يوميًا لتناول أدوية السكر والكلى ولا يستطعن المكوث بدون طعام لفترة طويلة». يومان آخران تحملا فيهما الشقيقتين الجوع والعطش، لكن في اليوم العاشر ماتت الأخت الكبرى جوعًا.
بعدها بساعات ماتت الوسطى ولم يتبق سوى غيداء، التي لا تعرف لماذا قامت الحرب في بلادها إبان 15 أبريل / نيسان 2023، ولا تعلم شيئًا عن القوى المتصارعة وأهدافها، ولكنها رأت شقيقتيها يحتضران أمامها جوعًا ولم تستطع فعل شيء: «كنت أصرخ بشدة حين بدأت شقيقتي الوسطى في حشرجة الموت لخواء معدتها، وفي اليوم التالي جاءت المساعدة بعدما مات شقيقتايّ جوعًا».
في حرب السودان من لم يمت بالرصاص مات جوعًا، فأكثر من 19 مليون شخص يمثلون 40% من السكان تأثروا بتراجع حاد في الأمن الغذائي نتيجة الحرب وهناك 2.5 مليون انزلقوا إلى الجوع وفق برنامج الغذاء العالمي في حين تجاوزت نسبة الفقر 65%.
يورد هذا التقرير تفاصيل أزمة الغذاء التي تعاني منها السودان نتيجة الحرب والحصار منذ 15 أبريل/ نيسان، والتي أدت لوفاة مدنيين في منازلهم جوعًا بعدما بدأت السلطات في استهلاك المخزون الاستراتيجي للسلع الأساسية وسط توقعات بالوقوع في مجاعة وارتفاع معدلات التضخم.
حى الدناقلة: «محاصرون نموت من الجوع»
المساعدة التي جاءت إلى غيداء وأنقذتها من أن تلقى مصير شقيقتيها كانت مبادرة «حوجة غذائية»، والتي أطلقها أحمد حسين في حي الدناقلة بالخرطوم، بسبب الحصار الذي وقع فيه الأهالي منذ 25 يومًا دون طعام أو شراب: «القوات عمدت نهب المحال التجارية التي توفر المواد الغذائية وقصف المصانع المُنتجة، وفي بداية الحرب كان الأهالي يعيشون على المخزون لديهم».
منتصف أبريل/نيسان العام 2023 وقع نزاع مسلح بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها عبد الفتاح البرهان وبين قوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أدت إلى مقتل 5 آلاف وإصابة 6 آلاف آخرين وما زال التعداد في تصاعد وفق وزير الصحة السوداني هيثم إبراهيم.
قُصفت محطة مياه الحي في أثناء الاشتباكات أيضًا فلم يعد هناك ماء سوى عبر البحر وغليها لتصبح نقية إلى جانب ذلك فقدّ الأهالي وظائفهم فلم يعد هناك مال أو منتجات غذائية وفق حسين: «أطلقنا المبادرة لجمع تبرعات من المدن والولايات الخارجية حتى نستطيع إنقاذ الأطفال وكبار السن من الموت جوعًا».
جمعت المبادرة 800 ألف جنيه سوداني (41 ألف جنيه مصري/ 1326 دولارًا أمريكيًا) ومواد تموينية تبرع بهم تاجر يعيش بعيدًا عن المناطق المتاخمة للحرب، تم توصيلها عبر طرق خفية وتوزيعها على الأهالي لعدم وجود ممرات آمنة لتوصيل المواد التموينية.
يحتاج 25 مليون شخص يمثلون أكثر من نصف عدد سكان السودان لمساعدات إنسانية وحماية بحسب الأمم المتحدة.
يتقاسم أهالي الحي وفق حسين الطعام، ويظل البعض على وجبة واحدة طوال يومين لعدم توافر الغذاء: «الوضع صعب ومات من الحي 5 أفراد 3 كبار سن و2 أطفال بسبب الجوع وعدم القدرة على توفير الغذاء والأدوية والمياه».
24 يوليو/تمُّوز ضج العالم بخبر وفاة الموسيقار خالد سنهوري جوعًا داخل منزله في أم درمان، لكونه لم يتناول الطعام منذ أيام، بسبب حصار منزله من قبل قوات عسكرية، ودفنه شقيقه أمام منزله نتيجة صعوبة نقله إلى المدافن العامة بسبب الحصار.
وزارة الزراعة بالسودان: «المخزون الاستراتيجى من السلع الأساسية يتناقص»
يصف عمار حسن، مدير إدارة الأمن الغذائي في وزارة الزراعة بالسودان، البنية التحتية للغذاء في السودان بالهشة والتي دُمرت نتيجة الحرب، إذ تأثرت سلاسل الإمداد الغذائي، وكذلك عمليات التصنيع والتصدير والنقل والاستهلاك.
يفسر عمار ذلك لـ«الدستور» بأن مصانع إنتاج السلع الغذائية تتركز في الولايات المتاخمة للحرب ومعظم المساحات الزراعية موجودة بها، فيما تمثل الخرطوم منطقة استهلاك رئيسية، بينما البنية الصناعية والتي تمثل جزءًا رئيسيًا من سلاسل الإمداد الغذائي و المتركزة في الخرطوم تم استهدافها وهي الشريان المغذي لمنافذ الاستهلاك الغذائي الموجودة بالعاصمة.
بلغ حجم الاستهلاك السنوي للسودانين من الحبوب الغذائية الرئيسية المُنتجة محليًا بالولايات 9166 ألف طن العام 2021.
المصدر - تقرير أوضاع الأمن الغذائي في السودان للعام 2021
يواجه السودانيون أزمة في سد الاحتياجات من الغذاء بسبب الفجوة التي أحدثتها الحرب بين الإنتاج والاستهلاك، وفق عمار، لاسيما أن هناك عمليات نزوح حدثت من ولايات إلى أخرى مما كدّس الكثافة السكانية.
تتركز المعارك التي اندلعت في منتصف أبريل/ نيسان في العاصمة الخرطوم وضواحيها وفي إقليم دارفور بغرب البلاد.
فاقم نقص السلع الأساسية قصف 90% مصانع المواد الغذائية في الخرطوم، إذ يؤكد ذلك يس الشاذلي، عضو شعبة الغذاء بالغرف التجارية السودانية لـ«الدستور» أن الأمر أدى إلى شح السلع الغذائية الأساسية التي تُصنع محليًا.
ويكشف أن من أبرز السلع الغذائية التي تعاني من النقص هي القمح والذرة والدخن والبقوليات والزيوت النباتية واللحوم والسكر، لأن الزراعة والتي تعد إحدى ركائز الأمن الغذائي بالسودان تأثرت بالحرب، والمزارعون يواجهون تحديات عديدة.
بلغ حجم إنتاج السودان المحلي من الحبوب الغذائية الرئيسية 8047 ألف طن خلال العام 2021، أي أن هناك عجزًا بين الإنتاج والاستهلاك بلغ 119 ألف طن على نطاق السودان.
المصدر - تقرير أوضاع الأمن الغذائي في السودان للعام 2021
مزارعون هجروا أراضيهم: «المجاعة قادمة على السودان»
تحدثت «الدستور» مع خمسة مزارعين من السودان هجروا أرضهم ولن يعودوا للعمل مجددًا. أحمد عبدالحليم، مزارع قمح في الخرطوم، هجر أرضه التي كانت تبلغ 6 أفدنة، وذلك بعد مرور شهر من الحرب، بسبب وقف التمويل الحكومي لزراعة القمح وعدم توافر المدخلات الزراعية: «هناك أزمة في الأسمدة الكيماوية وفدان القمح يحتاج 5 أجولة أسمدة».
65 % من سكان السودان البالغ عددهم 49 مليون نسمة يتصل عملهم بالقطاع الزراعي حسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو).
ترك عبدالحليم أرضه وزراعته ونزح من الخرطوم إلى تشاد بحثًا عن مصدر رزق آخر هو ما يقرب من 20 مزارعًا قرروا ألا يعودوا للزراعة: «ما يحدث يُنبأ بأزمة قريبة في الأمن الغذائي، وهجر المزارعين أراضيهم يهدد القطاع ويزيد من جوع المواطنين».
تدهور أوضاع المزارعين وتوقفهم عن زراعة المحاصيل الأساسية توحي بأن أزمة جوع فائقة التوقعات تلوح في الأفق. يؤكد ذلك يس الشاذلي، عضو الغرف التجارية بالسودان، لاسيما مع توقف حركة الاستيراد أيضًا بسبب القصف الجوي المستمر.
تقدر الأمم المتحدة أن عدد الجياع في السودان سيرتفع إلى 19.1 مليون بحلول سبتمبر من 16.2 مليون قبل الحرب.
طيف طفل يموت جوعًا أمام أمه
لم يكن الأطفال بمنأى عن فجوة الغذاء تلك، فقد أصيب طيف، طفل سوداني عمره عام ونصف، بفقر في الدم وسوء تغذية، بعدما حُصر هو والدته في منزلهما بحي الأملاك الخرطوم بحري، تقول والدته فاطمة: «فقدّت زوجي في الأيام الأولى من الحرب، ونفد المال، وكنت أخرج لجلب الحليب لابني بمساعدة الآخرين إلا أن الحي سقط في الحصار خلال يوليو/تمُّوز الماضي».
تحملت فاطمة الجوع والعطش لمدة ثلاثة أيام تقتات فيهم على لقيمات صغيرة، لإعطاء ابنها الطعام المتبقي كله قبل الحصار، ولا يشغل بالها سوى ماذا تفعل في الأيام القادمة مع استمرار الحصار وانقطاع الإمدادات الغذائية كافة.
نفد الطعام وجف الحليب في ثدي الأم لعدم تناولها ما يدريه، وبات صراخ الصغير يعلو كل ساعة: «إذا خرجت لجلب الطعام سيقتلونني ويموت الصغير من بعدي، وإذا مكثت سيموت جوعًا، الموت كان المصير في الحالات كلها». لم يتحمل طيف أكثر من ذلك ومات جوعًا وسط نحيب أمه المتواصل.
توفي 498 طفلًا في السودان بسبب الجوع من بداية الحرب بمن فيهم 24 رضيعًا. بحسب منظمة الإغاثة «Save the children» من الخرطوم
600 ألف طفل مصاب بسوء التغذية
معاناة الأطفال من الجوع أكبر من ذلك، إذ إن هناك 600 ألف طفل سوداني أصيبوا بسوء التغذية نتيجة الحرب والحصار، وفق رمضان يس حمد، مفوض منظمة العون الإنساني (هيئة حكومية سودانية تدير الأعمال الإنسانية في وزارة الضمان والتنمية الاجتماعية)، الذي كشف أن الأطفال في السودان بدأ يظهر عليهم علامات الفقر الغذائي.
ما زال العاملون في المجال الإنساني يطالبون سُدى بتوصيل الغذاء للمناطق المتاخمة للحرب، بحسب رمضان الذي يوضح لـ«الدستور» أنه منذ اندلاع الحرب في الخرطوم والولايات الكبيرة ويعاني السكان المحاصرون من فجوة غذائية ضخمة، تحاول وزارة التنمية الاجتماعية سد الاحتياجات إلا أن الحصار المفروض يعيق أي جهود.
وأعطى حمد مثالًا بإقليم النيل الأزرق الذي يضم مليونا و300 ألف مواطن سوداني، يحتاجون شهريًا إلى مساعدات غذائية تبلغ 26 ألف جوال من الملح و40 ألف جوال من دقيق الذرة، و40 ألف دقيق ذرة رفيعة إلا أن تلك الاحتياجات لا تصل نتيجة الحصار وتوقف الزراعة.
أحمد باكر، مزارع ذرة رفيعة، يوضح أن زراعته توقفت رغم أن الوقت الحالي كان على المزارعين الاستعداد لبدء زراعة الذرة الرفيعة، فلم تف الحكومة بالإقراض المطلوب للزراعة وهناك نقص في التمويل المادي والعيني. يشعر باكر بأن السودان مهدد بالمجاعة.
يشاركه ذلك الشعور المزارع مصعب صالح، الذي هجر أرضه ولم يصمد أمام نقص التمويلات، إذ كان ينتظر الحصول على بذور وقرض لشراء مدخلات زراعية إلا أنه لم يحصل على شيء، لذلك توقف عن زراعة أرضه حتى بارت وهجرها.
في 24 يوليو/تمُّوز توفي رجل سبعينى فى منطقة بحرى كان يتضور جوعًا بعد أن عجز عن توفير قطعة خبز لأيام، وفق ما أعلنته وزارة الصحة بالسودان.
رحلة محمود فى البحث عن طعام تنتهى بموت أمه جوعًا
المصير نفسه لاقته والدة محمود النخال، سوداني، يعيش في أمدرمان المحاصرة، التي لا تتوقف فيها الاشتباكات العنيفة، يقطن مع والدته المُسنة 65 عامًا منذ بداية الحرب للاعتناء بها إلا أنهما سقطا في الحصار، وبعدما نفد الطعام لديهما اضطر النخال للخروج تحت وطأة الاشتباكات.
تعد أم درمان إحدى الولايات المتاخمة للحرب، لكن شعور محمود بأن والدته تموت من الجوع، دفعه للخروج في محاولة لجلب الدقيق إلى المنزل لصنع الخبز. قطع مسافات طويلة في الليل وبات يومًا وليلة في شوارع خفيّة حتى لا يدركه أحد، وكان يختبئ مع تجدد الاشتباكات.
حين عاد محمود محملًا بالطحين لإنقاذها كانت زهقت روحها بسبب الجوع والعطش، حاول إسعافها بما جلبه من طعام وماء إلا أن روحها كانت فارقت الحياة: «الموت من الجوع بات المصير الذي ينتظر المحاصرين داخل منازلهم».
الغرف التجارية في السودان: «90% من مصانع الغذاء تم قصفها»
الدقيق الذي جلبه محمود لأمه هو إحدى السلع التي رصدت الغرف التجارية نقصها من السوق، بحسب يس الشاذلي عضو الغرف التجارية بالسودان، الذي يؤكد أن هناك نقصًا في الأسمدة العضوية والمخصبات التي أوقفت بعض الزراعات مثل الخضروات والفواكه.
في يوليو/تمُّوز توفيت شقيقتان من أصول أرمينية جوعًا في منزلهما في ضاحية العمارات الراقية، بعدما عجزت عن الخروج لإحضار مواد غذائية بسبب القصف المستمر على المنطقة وتوفيا بعد 55 يومًا من الحصار.
ويؤكد الشاذلي لـ«الدستور» أن هناك محاولات لتوفير السلع الضرورية بالحد الأدنى، ولكن توقف الاستيراد يعرقل أي تحركات فلا يوجد صادر ولا وارد في الولايات المتاخمة للحرب، وميناء السودان متوقف فلا يمكن نقل المحاصيل من مناطق الإنتاج إلى باقي الولايات.
إذا استمرت الحرب لفترة أطول سيكون هناك نفاد للمخزون الاستراتيجي، وفق عضو الغرف؛ لأن الخرطوم بدأت في استخدامه بالفعل، فالإنتاج المحلي للغذاء والاستيراد متوقفان ولم يعد أمام السلطات سواء المخزون.
ويؤيده عمار حسين، مدير الأمن الغذائي، إذ يؤكد أن هناك انخفاضًا في قيمة الجنيه السوداني أدت لارتفاع تكاليف الغذاء، مبينًا أن معدل التضخم في أسعار السلع الأساسية وصل إلى نسبة 100% بعد الحرب، لذلك بدأت السلطات في استخدام المخزون الاستراتيجي، لمقابلة اختلالات الأسعار بالنسبة للمستهلكين والمنتجين على حد سواء.
ارتفع رطل الشاي من ألف جنيه (دولارين) إلى 10 آلاف جنيه (20 دولارًا) مع شح المعروض حسب عمار.
حجم المخزون الاستراتيجى من السلع الأساسية
ويكشف ياسر صعب، رئيس تجمع مزارعي السودان، عن أن حجم المخزون الاستراتيجي في السودان للذرة يصل إلى مليون و500 ألف جوال، ومليون جوال من القمح ويزن الجوال 100 كيلو جرام، مبينًا أن هناك سلعًا زادت أسعارها بنسبة 100% منها الصابون والحليب والزيت والذرة الرفيعة والقمح، وأصبح أدنى حد للتضخم بعد الحرب 50%.
ويوضح لـ«الدستور» أن هناك أزمة في المواد الغذائية وتحديدًا التي كانت تأتي من المطاحن في الخرطوم وهي أكثر ولاية متاخمة للحرب، إذ حدث شح في المدخلات الزراعية مثل المبيدات والأسمدة.
ما زالت تعيش غيداء بمفردها محاصرة بعد وفاة شقيقتيها جوعًا، بينما يلوم محمود نفسه على الثواني الفاصلة بين وصوله بالطعام ووفاة أمه، فيما تدوي صرخات طيف التي كان يطلقها قبل وفاته في أذن أمه قبل أن يموت من الجوع.