ذكريات نصر حامد أبوزيد مع جابر عصفور وحسن حنفي
في سيرة المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد التي حررها الكاتب جمال عمر في كتابه المعنون بـ"أنا نصر أبو زيد"، يروي ذكرياته أيام الدراسة الجامعية مع قطبين من أقطاب الثقافة المصرية والعربية، ألا وهما الدكتور جابر عصفور، والدكتور حسن حنفي.
يقول أبو زيد: مع بداية السنة الثالثة، أصبحت أذهب إلى الجامعة في الصباح، ومنها إلى وردية المساء بقسم شرطة العجوزة ــ حيث كان يعمل فني لاسلكي ــ وبدأت الأسرة تتأقلم مع الحياة في القاهرة. أمي تزداد خبرة في التعامل مع المدينة المزدحمة. كان جابر عصفور يدرس لنا تاريخ النقد الأدبي، وكان منخرطا في إعداد رسالته للدكتوراه، عن “الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب”، بعد رسالته للماجستير عن “الصورة الفنية عند شعراء الإحياء في مصر”. كنت قريبا منه، نتناقش طوال الوقت ومعجب بالنظرة الكلية التي ينظر بها لموضوع بحثه، عبر مجالات التراث المختلفة، وبدأ د. عبد المنعم تليمة يدرس لنا محاضراته المرهقة عن نظرية الأدب من منظور ماركسي، ويدخل بنا في رحاب بعيدة من الفكر الفلسفي، للربط بين نظرية الأدب، ونظرية المعرفة، وارتباط ذلك كله بالمنظور الفلسفي.
ما النصيحة التي قدمها حسن حنفي لـ نصر حامد؟
دخل علينا المدرج د. حسن حنفي، الشاب العائد من فرنسا، الحاصل على الدكتوراه من السربون، ببدلته الأنيقة وشاربه المهذب. من أول محاضرة تحدث عن الحوار والنقاش، ودور الطالب في المحاضرة، وعن التعلم المتبادل بيننا. يدرس لنا علم الكلام الإسلامي، وبدأ يتحدث عن البنية الهيراركية الموجودة في التراث الإسلامي، من الأعلى للأدنى، الله ثم الملائكة فالأنبياء والرسل ثم المؤمنون، المسلم منهم وغير المسلم، فالكفار ثم الحيوانات فالنباتات، ثم الصخور. ويربط كل ذلك بالبنية السياسية في العالم الإسلامي، نفس النسق: الحاكم ثم الوزراء فرجال الإدارة ثم كبار الموظفين فالعمال والفلاحون ثم الحيوانات. ويربط جوانب التراث المختلفة، السياسي والعقيدي والنحوي واللغوي والفقهي، ويربط بين الماضي والحاضر، بطريقة طازجة جاذبة، ووقت كبير للنقاش والحوار. كنت من أول المناقشين، فقلت: “يعني أنت تتصور بهذه البدلة الأنيقة والكرافتة المستوردة من باريس، إنك هاتغير وعيي في المحاضرة، وأنا مطلوب مني بعد ذلك أخرج أغيرلك المجتمع؟ هو حضرتك ناسي أني ممكن أتخرج من هنا وأروح اشتغل في التموين أو مدرس في منطقة نائية، بمرتب لا أستطيع أن أعيش به، أنت كأستاذ لك هيبة ومكانة، هاتغير مخي وتطلب مني أن أغير الواقع؟ التغيير يحتاج إلي عمل ثوري وليس إلي عمل أكاديمي”. ووجدته يبتسم، وهو قليل الابتسام، وامتدح النقد وقال: “يا صديقي هذه مشكلة ويجب أن نفكر فيها معا، هل نبدأ بتغيير الواقع ليتغير الوعي أم نغير الوعي ليتغير الواقع؟ أيهما الأسبق علي الآخر، أيهما الأصل وأيهما الفرع”. وسألني عن اسمي فأجبته، فقال: “يا نصر أعمل حزب من أجل تغيير الواقع وأنا أنضم عضو مشارك فيه” فقلت له: “أعمل أنت الحزب وأنا أنضم”، فضحكنا، وكانت بداية علاقة بأستاذ مختلف له رؤية، وقام بعض زملائنا السلفيون يعترضون علي ما جاء في المحاضرة، فأعطاهم كامل الحرية، وبعد أن فرغ أحدهم قال له: “يا صديقي أنت لم تقل شيئا، ما قلته هو خطبة عصماء مكانها المسجد، لكن نحن في جامعة، حاورني حوار فلسفي”.