جريمة فى الحى الراقى!
فى عام ١٩٤٢ أصدر الأديب «ألبير كامو» روايته «الغريب».. كانت هذه الرواية نوعًا جديدًا من الأدب.. ببعض التبسيط يمكن أن نقول إن الروايات قبلها كانت نوعين.. روايات واقعية تتحدث عن معاناة الإنسان مع الواقع، وروايات رومانسية تتحدث عن معاناة الإنسان فى الحب.. لكن ألبير كامو جاء ليكتب عن العبث.. كتب رواية لا يشعر بطلها بأى مشاعر.. لا بالفرح ولا بالحزن ولا بالذنب ولا بأى شىء.. بطل يشعر أن حياته وحياة الآخرين مجرد عبث.. إنه لا يشعر بأى مشاعر من أى نوع.. وعندما تتوفى والدته لا يحزن ولا يفرح.. ويمارس حياته فى يوم وفاتها بشكل عادى وكأن شيئًا لم يكن.. ثم يذهب مع صديقته لقضاء يوم مع زوجين فرنسيين على أحد الشواطئ.. وهناك تنشب مشاجرة بين صديقه وشخص جزائرى.. ورغم أن المشاجرة لا تخصه إلا أنه يسحب مسدسه ويفرغه فى ذلك الشخص ويرديه قتيلًا.. وفى التحقيق يقول إنه لا يعرف ذلك الشخص.. وإنه ليس نادمًا على قتله ولا يشعر بشعور من أى نوع.. وحين يحكم عليه القاضى بالإعدام يستقبل الخبر بلا مبالاة.. فهو لا يريد أن يعيش ولا حتى أن يموت! إنه لا يبالى بشىء.. إنه يرى أننا جئنا للحياة دون معنى.. ولا مانع أن نرحل منها دون معنى.. وقد فاز كامو فيما بعد بنوبل للآداب عن مجمل إنتاجه.. وتوجت روايته كأفضل تجليات الوجودية فى الأدب.. وقد تذكرت أحداث هذه الرواية الفريدة وأنا أطالع خبر الضابط الطبيب الذى أضاع حياة أسرة كاملة وحياة أسرته هو أيضًا فى حادث إجرامى، لكنه أيضًا عبثى.. وهو عبثى لأنه فى حقيقته بلا معنى ولا هدف سوى العبث والاستجابة للغضب المجنون والملتاث.. إنه حادث عبثى لأنه بلا منطق ولكنه أيضًا إجرامى لأنه أزهق روحًا بريئة.. على المستوى العام حاول الإرهابيون استخدام الحادث كحلقة فى مخطط طويل لشيطنة القوات المسلحة وضرب العلاقة بين الشعب وجيشه وإهدار بطولات آلاف الشهداء باستخدام حادث فردى أو حادثين أو حتى ثلاثة.. وكأن هناك مجتمعًا على وجه الأرض يخلو من الخطايا حتى نفترض أن المجتمع العسكرى يجب أن يخلو منها.. إن الخير والشر خصلتان متلازمتان فى النفس البشرية وإلا لما قال الله تعالى «فألهمها فجورها وتقواها».. ذلك أن الفجور والتقوى متجاوران فى النفس البشرية.. ولولا هذا لما كان أحد ولدى آدم مجرمًا يقتل أخاه بسبب الحقد رغم أن والده نبى اصطفاه الله وعلمه الأسماء كلها.. إن المجتمع العسكرى مثل أى مجتمع فيه مصيبون ومخطئون.. أبطال ومجرمون.. شهداء كتبوا أسماءهم بحروف من نور وإرهابيون تورطوا فى الخيانة.. وذلك موجود منذ قديم الأزل.. ولولا هذا لما كان هناك قضاء عسكرى يحاكم المخطئين، وشرطة عسكرية تلقى القبض على المخالفين، وسجن حربى يقضى فيه المخطئون عقوبتهم إذا أخطأوا.
على المستوى الشخصى ليس لدىّ أدنى تعاطف مع المتهم وأظنه مريضًا بالنرجسية الخبيثة وعلى المستوى الفلسفى أرى أن كثرة عوامل التميز فى الشخص قد تفسده.. مثلما تفسد كثرة الألوان اللوحة ومثلما تؤدى كثرة الطعام إلى الموت بالتخمة، ومثلما تؤدى زيادة البهارات فى طبخة ما لإفساد طعمها.. لكن هناك أمرًا يجب أن ننتبه إليه جميعًا وهو زيادة معدلات العنف فى التعامل اليومى بين المصريين.. وعدم لجوء الجميع للقانون وتراجع ما كنا نسميه «الذوق» فى التعامل.. وعدم تفكير الكثيرين فيما كنا نسميه التعامل بالحسنى.. رغم أن هذا أساس العلاقات الإنسانية وأساس التدين الذى يدعيه الكثير منا وإلا لما قال الله عز وجل «ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم».. وفى واقعة مثل هذه الواقعة المأساوية هناك عشرات الطرق يمكن بها للمتهم أن يعبر عن غضبه.. كأن يحرر محضرًا فى قسم الشرطة ويثبت الضرر الذى حدث له.. أو أن يشكو لإدارة المجمع السكنى الذى يسكن فيه.. أو حتى يتشاجر مع ولى أمر الطفل يدًا بيد ورجلًا لرجل.. بدلًا من أن يركب سيارته قاصدًا قتل أسرة بأكملها.. إن زيادة معدلات العنف فى الشارع أمر خطير يستدعى معالجة من الإعلام والتعليم والثقافة لأنه مؤشر خطير ينذر بتحلل المجتمع والدولة معًا.. أحتك بالناس العاديين أمام ماكينات الصراف الآلى فتجد شبابًا كثيرًا يرى أنه ليس عليه الالتزام بالدور وإذا نبهته رد بانعدام ذوق متناه.. لأنه لا يؤمن بالنظام.. على بوابات الأوبرا والقرى السياحية والنوادى.. تصطف السيارات فى طابور انتظار للدخول.. ولكن هناك دائمًا فهلوى يأتى من الخلف ليتجاوز الطابور ويسرق دور الآخرين.. وعادة ما تسمح البوابة له بالدخول لأنهم يظنون أنه صاحب حظوة أو لأنهم لا يعرفون النظام وإذا نبهه أحد لضرورة احترام الدور رد بصلف وتعالٍ لأنه لا يعرف قيمة احترام الآخرين وقيمة المساواة أمام القانون.. وهذه كلها مواقف مرشحة للتصاعد والانتهاء بجرائم شبيهة بجريمة الحى الراقى لأن أساسها هو الكبر والعدوان وعدم الاحتكام فى القانون.. فى هذه الجريمة محاولات للإساءة للقوات المسلحة وهذا خطير جدًا.. وفيها مؤشر لحالة من عدم الثبات الانفعالى والتواضع الذى تربى القوات المسلحة أبناءها عليه وهذا خطير جدًا.. وفيها مؤشر عام لعدم الاحتكام للقانون وتسوية الخلافات بالعنف وهذا خطير جدًا.. انتبهوا أيها السادة وليمارس كلٌ دوره كى نحافظ على بلدنا فى عالم متربص ومتآمر بكل معنى الكلمة.