نظرة أخرى لموضوع الهجرة
بشكل عام أرى أننا يجب أن نعيد النظر فى مسلّمات فكرية كثيرة نعيدها مرارًا وتكرارًا ونرددها كما يردد التلاميذ نشيد الصباح، ونتلوها آناء الليل وأطراف النهار.. ودافعى لهذه الدعوة أمران اثنان، أولهما أن هذه المسلمات قادت مجتمعنا إلى حيث نرى جميعًا من أوضاع لا تسر عدوًا ولا حبيبًا، وثانيهما أن مصر منذ ٢٠١٤ تعيش ثورة حقيقية تهدف بها لتغيير حظها من التنمية وتطرق أبوابًا هجرها الأقدمون، وبالتالى فإن هذه الثورة تتطلب تغييرًا فى طرق التفكير القديمة وفى نصوص المحفوظات القومية التى يتوارثها إعلامنا جيلًا بعد جيل.. من هذه المحفوظات مثلًا الموقف من هجرة الشباب لأوروبا والتى يسميها الإعلام الهجرة غير الشرعية وأسميها الهجرة غير النظامية.. لقد سمعت إعلاميًا شهيرًا بالأمس يسخر من سعى الشباب للعمل فى أوروبا ويقول إنهم لو استثمروا نفقات السفر فى مشروع تجارى فى مصر لحققوا النجاح والأرباح.. والحقيقة أننى أسمع هذا الخطاب منذ كنت طالبًا فى المرحلة الثانوية من كبار الكتّاب وقتها مثل الأستاذ أنيس منصور والأستاذ صلاح منتصر وغيرهما من كبار الكتّاب وقتها حين كانت الكتابة تضمن لصاحبها الثروة والحظوة تمامًا مثل برامج الفضائيات حاليًا.. ولعل ما يجمع هؤلاء الكتّاب الكبار بالإعلامى الناجح الذى ردد نفس الرأى أن كلهم من أصحاب الثروات الكبيرة والذين لا يعلمون شيئًا عن حياة الشباب الذين يُقدمون على الهجرة، ولا عن الفوائد التى يمكن أن تحققها الهجرة لمصر لو أحسنا تنظيمها والاستفادة منها.. بالتأكيد تطالب أوروبا وغيرها مصر ودول المتوسط بمنع محاولات الهجرة إليها.. لكن الأكيد أيضًا أننا لسنا حرس سواحل لدول أوروبا أولًا، وأننا يجب أن ننظر لمصلحتنا القومية قبل مصالح غيرنا ثانيًا.. للموضوع عدة زوايا.. أولاها أن ما هو «شرعى» بالنسبة للغرب قد يكون مضرًا لنا.. على سبيل المثال فإن هجرة أطبائنا الشباب لأوروبا هى بالنسبة لهم هجرة شرعية يرحبون بها ويشجعون عليها لكنها ضارة بنا تسرق شبابًا علّمناه فى كليات الطب أفضل تعليم وتحرم مستشفياتنا منهم.. هذه الهجرة يرحب بها الغرب والإعلام رغم أنها سرقة عقول مستمرة منذ عشرات السنوات.. والعكس صحيح بالنسبة لما يسميه الغرب هجرة غير شرعية حيث يهاجر شباب من المزارعين ومتوسطى التعليم فيكافحون ويكمل بعضهم تعليمه ويرسل تحويلات بالعملة الصعبة لأسرته، ويشترى منزلًا واثنين وثلاثة فى مصر ويفتح مشروعًا تجاريًا بها ويوفر فرص عمل لأقاربه وبلدياته فى البلد الذى يهاجر إليه.. وإذا كان ذا موهبة خاصة فإنه يتحول لقصة نجاح كبيرة وملهمة كما نعرف ونقرأ جميعًا من حين لآخر.. والحقيقة أن حديث بعض إعلاميينا عن أن أوروبا تحولت لدولة فقيرة هو حديث يكشف عن فقر شديد فى المعلومات.. فتباطؤ معدل النمو لا يعنى الفقر، ودول مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا هى من الدول الصناعية السبع الأغنى فى العالم، ودول مثل السويد والنرويج وفنلندا هى الأعلى رفاهية فى العالم، وهذه الدول كلها تعانى من انخفاض حاد فى معدلات المواليد وتحتاج لمواطنين.. هؤلاء المواطنون هم المهاجرون من دول العالم الثالث الذين من حقهم أن ينالوا حظهم من فرص العمل والتطور والتنمية شريطة احترام القانون فى الدول التى يهاجرون إليها والاندماج فيها، مع الحفاظ على ثقافتهم الأصلية دون مخالفة القانون والقواعد.. إن هؤلاء المهاجرين يمكن أن يكونوا مصدر دخل قومى وقوة سياسية وثقافية لمصر لو أحسنا إدارتهم.. وأنا شخصيًا أتوقع أن يتحول أربعة ملايين مهاجر سورى لأوروبا لمصدر دخل كبير لوطنهم إذا أحسنت إدارة العلاقة بهم.. علمًا بأن دولة مثل ألمانيا فتحت باب اللجوء بشكل عام لمعالجة مشكلة نقص المواليد لديها فى المقام الأول.. فى هذا الإطار يجب على إعلامنا أن يدرس تجربة الهجرة لأوروبا فى عدة دول عربية مثل المغرب ولبنان، ودورها فى تقليل معدلات الفقر وتحويلات العملة الصعبة لهذه الدول.. على المستوى السياسى فإن الغرب لا يقوم بدوره فى دعم التنمية فى الدول المصدرة للهجرة، وبالتالى فإن من حق الشباب فى هذه الدول البحث عن حظوظهم فى التنمية والثروة والعمل فى دول أوروبا، مع الوضع فى الاعتبار أنهم يعملون بالفعل ويشكلون فرصة لمجتمعات الغرب فى مزيد من النمو والأيدى العاملة الرخيصة بغض النظر عن السلبيات التى يجب أن يواجهها الغرب لا أن نواجهها نحن بالنيابة عنه.. وعلى الله قصد السبيل.