الفنان و«الآلاتى»
فى حوار قديم له روى الموسيقار محمد عبدالوهاب هذه القصة «كنت مطربًا شابًا وبدأ الناس يطلبونى بمفردى كى أحيى أفراحًا فى البيوت.. فى أول فرح ذهبت له سألت على الترتيبات الخاصة بالفرقة التى تعزف معى.. قال أصحاب الفرح إن الفرقة ستتناول العشاء فى المطبخ بعد الانتهاء من الغناء.. طلبت من أفراد فرقتى أن يتوقفوا عن العزف وأن يجمعوا آلاتهم تأهبًا للانصراف.. لم يعرف أصحاب الفرح أين المشكلة وعرضوا زيادة الأجر.. لكننى قلت لهم إن كرامة فرقتى من كرامتى وإنه لا يوجد فن بدون كرامة.. واعتذر أصحاب الفرح.. رغم أن ما فعلوه كان هو العادى ومن يومها أصبح للفنان كرامة».. إن ما فعله محمد عبدالوهاب فى العقد الثانى من القرن الماضى وضع الحدود بين الفنان والآلاتى.. إن كليهما مهنة شريفة و«الآلاتى» فى اللغة هو الشخص الذى يعزف على آلة موسيقية.. لكنها فى الوعى العام تقال على من يتخذ الفن وسيلة للارتزاق وأكل العيش بغض النظر عن أمور أخرى يراعيها الفنان.. مثل الكرامة والإحساس والإضافة لتاريخ الفن.. كان محمد عبدالوهاب وأم كلثوم علامتين بارزتين على سطوع عصر الفنان وأفول عصر «الآلاتى».. انتقلا بكلمات الأغانى من «الطقاطيق» الخليعة إلى أشهر قصائد اللغة العربية.. لمعا بعد نجاح ثورة ١٩١٩ ودخول مصر إلى عصر جديد. تتلمذ محمد عبدالوهاب على يد أمير الشعراء أحمد شوقى وتولى أحمد رامى تثقيف أم كلثوم وتعريفها بالأدب والشعر العربى.. ظهرت أجيال جديدة تعرف قيمة كرامة الفن وتقلد أم كلثوم وعبدالوهاب فى حفاظهما على كرامة الفنان وتعامله مع نفسه على أنه قيمة كبيرة، وأن على من يسمعه أن يعامله بالاحترام الواجب.. فى كتاب «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» وردت الواقعة التالية.. «كانت أم كلثوم تحيى حفلًا خاصًا فى المغرب يحضره الملك الحسن الثانى عاهل المغرب.. خالف المصور فاروق إبراهيم التعليمات والتقط صورًا فوتوغرافية للملك.. فألقى رجال الحرس القبض عليه.. علمت أم كلثوم بالخبر وهى فى استراحة بين فاصلين فتوجهت للملك وأخبرته أنها لن تغنى قبل الإفراج عن فاروق إبراهيم.. أمر الملك بالإفراج عن فاروق فورًا واشترى له كاميرا جديدة كهدية منه».. الامتناع عن الغناء هنا فعل رمزى.. فعل يقول إن أم كلثوم ند للمسئول الذى أساء التصرف وقبض على شخص من فريقها.. إنها تستطيع أن تضايقه كما ضايقها.. هذا تصرف فنانة كبيرة وليس «آلاتية» لا تفكر سوى فى النقود بغض النظر عن كرامتها الشخصية كفنانة.. انعدام ثقافة بعض الفنانين يؤدى إلى تفريطهم فى كرامتهم الشخصية.. جهل بعض المطربين وعدم استكمالهم لتعليمهم يجعلهم لا يعرفون قيمة الفن الذى يقدمونه.. ولا قيمة البلد الذى ينتمون إليه.. ولا معنى ما يتفوهون به.. كرم الجمهور المصرى يجعله يعامل البعض على أنهم فنانون كبار فى حين أنهم ليسوا سوى «آلاتية» لا يفكرون سوى فى النقود وتناول العشاء فى المطبخ.. من سلوك «الآلاتى» أنه عندما يحيى فرحًا ما يبالغ فى مدح العريس والعروس رغم أنه لا يعرفهما.. لكنها طبيعة عمله.. أنه يتحدث عن جمال العروس وشباب العريس رغم أنه لم يشاهدهما من قبل.. لكنها طبيعة عمله كآلاتى أصيل يفكر فى المصلحة ويؤدى نمرته على المسرح دون إحساس.. الفنان الكبير يجب أن يكون حساسًا تجاه جمهوره وتجاه المناخ العام الذى يعمل فيه.. الفنان الذى لا يفهم المناخ المحيط به مجرد «آلاتى» أو عامل غناء.. هدفه أن يكسب أكبر قدر ممكن من النقود من نشاطه بغض النظر عن عوامل مثل الكرامة الشخصية أو التقدير أو رغبة الجمهور الذى صنعه.. مشكلتنا الآن أن «الآلاتية» سيطروا على المشهد منذ سنوات.. وأنهم أصبحوا الأعلى سعرًا رغم أنهم الأقل قيمة.. اختفى الفنانون المحترمون من المشهد منذ سنوات طويلة وصعد «آلاتية» فى كل المجالات.. نريد من الفنانين الذين صعد بهم الجمهور للمجد أن يحافظوا على كرامتهم وأن يتوقفوا عن ممارسات آلاتية.. ونريد من كل صانع قرار أن يدرك الفارق بين الفنان الحقيقى وبين الآلاتى فى كل المجالات.. عندما ندرك الفارق سيعود لمصر وجهها الذى كان.