الأب بيبيع البيت
الأب بيبيع البيت، بعد ما شركة الأسمدة الكيماوية طردته بيروحوا شقة تانية أصغر، وشغل تاني أقل، ومستوى معيشة أوطى. برنهارد كارل وكارل هاينز طفلين وأمهم وأبوهم، أسرة ألمانية بعد الحرب العالمية الأولى بخمس سنين.
البلد كلها ضربها الكساد والذلة والمهانة، شعور عام بجرح الكرامة.
سنة 1933، برنهارد كارل تراوتمان الولد اللي بقى عنده 10 سنين، ما كانش بيشوف حاجة تدعو للبهجة غير لمعة في عين الأب والأم، لما هتلر يخطب.
حب هتلر، شاف فيه الأمل وبكرة، ألمانيا هتقوم من رقدتها، محدش هيقدر يفرض عليهم كلمته، اتملى قلبه بحب النازية، ما خدش نصيب كفاية من التعليم، اشتغل صبي ميكانيكي، إنما كل دا مش مهم، البلد بتتقدم، الاقتصاد بيتحسن.
الولد راح "شباب هتلر"، المنظمة التابعة للحزب النازي، تطوع في الخدمة، صدق بعنف كل دعايات الحزب، ما شافش أي مشكلة في اعتقال عمه الشيوعي، الخطر على البلد بأفكاره.
كره اليهود واحتقرهم أكتر من فيران البلاعات، كان بيهلل لأي انتهاكات تحصل في حقهم، من أول هدم البيوت لحد أفران الغاز. حس بعلو الجنس الآري على كل أجناس الأرض، حلم باليوم اللي هيفرضوا فيه كلمتهم على العالم.
كانت "ألمانيا فوق الجميع" مش مجرد شعار، دا أهم من أي جملة في الكتاب المقدس.
بعد سنين في شباب هتلر، كان طبيعي يتنقل للخطوة الأهم، وهو لسه عنده 17 سنة: يدخل الجيش. لما نقول الجيش الألماني وقتها، سنة 1940، فإحنا بنتكلم عن الحرب العالمية التانية، بنتكلم عن جبهات مفتوحة في أكتر من بلد، وهو ما كانش في أي حتة، دا كان رسميا عضو في اللوفتافه "القوات الجوية"، القطاع الوحيد من الجيش الألماني اللي دخل الأراضي البريطانية وعمل فيها تخريبات وخساير.
كان جندي مظلات، اتنقل بين الجبهات، أكتر من عشرين مرة الشظايا تعدي على بعد ملليمترات من راسه.
اتأسر مرة من السوفييت، وهرب. اتأسر تاني في فرنسا، وهرب. اتأسر تالت ورابع وهرب. في الآخر زهق.
كفر بكل حاجة: بالحزب النازي وهتلر وألمانيا اللي فوق الجميع، بعد ما شاف عدد مش فاكره من إعدامات جماعية وحفلات تعذيب، كره المحور، وما قلش كرهه للحلفاء ولليهود، كره كل حاجة، وقرر إنه ما يهربش تاني، وطبعا مش هيرجع للوحدات الألمانية، هيقتلوه فورا.
وقع في أسر الإنجليز، كانت المرة الخامسة والأخيرة، الإنجليز كانوا بيقسموا الأسرى لـ3 فئات، حسب درجة ارتباطهم بالفكر النازي: الأبيض للي عندهم قدر من كره النازية، الرمادي للعادي، الأسود للنازيين. هو كان تصنيفه في قعر علبة الكحل الأسود، علشان تاريخه في شباب هتلر ثم اللوفتافه.
خلصت الحرب وألمانيا اتهزمت، وبريطانيا قالت: الأسرى الألمان هيفضلوا، علشان يصلحوا اللي دمروه، يعني يشغلوهم بالسخرة في إعادة الإعمار.
بالنسبة لبرنهارد، غيروا له اسمه لاسم إنجليزي مقابل "بيرت"، "بيرت تراوتمان"، وإمعانا في تهذيبه وإصلاحه شغلوه سواق عند أستاذ جامعي يهودي.
ما طاقش في البداية الإهانة، ضرب الأستاذ، اتحبس، خرج من الحبس في خدمة واحد يهودي تاني، بس شوية شوية أفكاره بدأت تتغير، خلينا نقول "تموت"، ما بقاش عنده أفكار بديلة، ما بقاش عنده أفكار خالص، بقى مستعد لقبول أي حاجة، أي حاجة.
رفعوا عن الأسرى حظر الكلام مع الإنجليز والاختلاط بيهم، حب بنت، عمل معاها علاقة جنسية، حاولوا يجبروه يتجوزها، إنما هو رفض وسابها.
بعدين اتعرف على بنت تانية، مارجريت، هي دي اللي حبها واتجوزها وبقت دنيته الصغيرة.
في وسط شغله بـلسخرة، كانوا بيعملوا للأسرى منافسات رياضية: لعب ألعاب قوى، ولعب كرة قدم، كان مدافع، ثم في مرة خلوه يقف حارس مرمى، هو مش حارس مرمى محترف، إنما جندي مظلات، فكان بيعمل صدات مذهلة، كمان كان جريء لحد الحماقة، كان بيرمي نفسه على أقدام المهاجمين، بيقفز قفزات مش محسوبة، بيخترق كل تكنيكات حراسة المرمى التقليدية، فكان حارس مرمى نموذجي.
في الوقت اللي بقى مسموح له يرجع ألمانيا، ييجي له عرض من نادي مش محترف، ومش معروف اسمه "سانت هيلينز تاون"، العرض كان بجنيه إسترليني واحد في الأسبوع، جنيه فقط لا غير، بس هو شاف الجنيه دا أحسن من الرجوع لألمانيا.
الحقيقة إنه بقاله في إنجلترا حياة، حتى لو حياة مش اللي هي، إنما في ألمانيا مفيش غير المجهول.
لعب في النادي المغمور، كان متوسط مشاهدي المباراة الواحدة حوالي 450 مشجع بيشتروا تذاكر، لكن مع انضمام تراوتمان وصداته العجيبة اللي مالهاش زي، بقى متوسط مشاهدي المباراة ست آلاف مشجع.
في نهاية الموسم، قرر يروح يزور أهله في مسقط راسه، بريمن ألمانيا، جماهير النادي الإنجليزي زودوه بأكل وشرب كتير، وخمسين جنيه إسترليني (راتب سنة تقريبا) وقالوا له: اتبسط في أجازتك، بس عايزينك ترجع.
كانوا عايزينه يرجع، وهو رجع، علشان يلاقي في انتظاره عرض لا يصدق: مانشستر سيتي عايزه يلعب في النادي.
وافق طبعا ومضى فورا، بس اللي ما كانش عامل حسابه، إن جماهير النادي المغمور غير جماهير مانشستر سيتي.
أبواب الجحيم اتفتحت ضد السيتي اللي قرر يتعاقد مع حارس "نازي". 600 لاعب راحوا الحرب، 80 منهم ماتوا، وكتير أصيبوا إصابات عجزتهم، إزاي على نفس النجيلة اللي كانوا بيلعبوا عليها، يقف لاعب كان في "اللوفتافه".
أساسا، مانشستر سيتي تعاقد معاه لسد الفراغ اللي سابه "سويفت" حارس مرماهم معبود الجماهير، يعني التلات خشبات اللي كان بيحرسهم سويفت، هيحرسهم واحد قتل عشرات البريطانيين.
رسايل غضب، مظاهرات، احتجاجات من كل شكل ولون، إنما إدارة النادي تجاهلت كل دا، وقررت استكمال التعاقد مع تراوتمان.
أول يوم ليه في النادي، دخل وسط مئات الغاضبين اللي اتجمعوا رافعين شعار النازية احتجاجا على دخوله النادي، لكن سويفت نفسه كان في ضهره: خده، دخل بيه أوضة اللبس، اللاعيبة كانوا بيتكلموا ويضحكوا، أول ما دخل، سكتوا.
كانت دقايق صعبة جدا، كسرها إريك ستوود جناح النادي ولاعبه المشهور، وكان جندي في الجيش البريطاني، اتقدم ناحية تراوتمان، وقال له:الأوضه دي مفيهاش حروب، أهلا بيك في الفريق.
مبادرة إريك سرت وسط اللاعيبة، رحبوا بالوافد الجديد، ورجعوا يتكلموا ويضحكوا. مباراة ورا مباراة ورا مباراةبدأ المشجعين يخفوا هجومهم، ثم بدأ الهجوم يتحول لإعجاب مكسوف، ثم بقوا يشجعوه بالاسم.
أول مباراة ليه في لندن، كانت قصاد فريق فولهام، وهو داخل المباراة، كان هتاف "نازي" بيرج الاستاد، بس بعد أدائه فيها، كان الاستاد كله بيصقف له.
هو علق على دا بعدين: الدرس اللي اتعلمته يوميها إن الإنجليز بيحبوا كرة القدم، أكتر حتى من دمهم؟
شالكه الألماني طلبه، وقالوا جحا أولى بلحم توره، قدموا عرض لمانشستر سيتي، عرضوا فيه رقم ما، كان رد النادي الإنجليزي بأنكم لازم تعرضوا عشرين ضعف الرقم داعلشان نبدأ نفكر فيه.
عدت السنين، بقى تراوتمان معبود الجماهير في مانشستر سيتي.
موسم 1955 وصلوا نهائي الكاس، بس خسروه، كان وقتها مفيش تبديلات، لو لاعب أصيب تلعب ناقص. أصيب منهم لاعب في ماتش النهائي، ودا كان زمان معناه خسارة محققة، إنما تراوتمان خد أفضل لاعب في إنجلترا سنتها، أفضل لاعب مش أفضل حارس مرمى.
موسم 56 وصلوا تاني نهائي الكاس، وقرروا إنهم مش ممكن يرجعوا من غيره، كان فاضل 17 دقيقة وهم متقدمين، عمل حركة أكروباتية من حركاته، وصف اللي حصل ساعتها، بأنه زي تحطم طائرة.
أصيب في اللعبة، بس قرر يكمل الماتش مهما كان، مش هيسيب فريقه يلعب ناقص، وناقص مين؟ حارس المرمى!
كانوا مضغوطين نتيجة إنهم متقدمين، صد كذا كورة خطيرة، بس في نهاية المباراة، لقى راسه ملوية، وفيه آلام رهيبة مش فاهمها، كسبوا الكاس وراحوا استلموه من الملكة، وهي سألته:
مال رقبتك؟
قال لها: مفيش! بس كان فيه، كان فيه كسر في فقرات العنق، الدكاترة اندهشوا إزاي ما ماتش، أو على الأقل جاله شلل كلي.
فترات كبيرة قضاها في الجبس وفي البيت، لما قعد في البيت علاقته بمراته باظت، كانوا خلفوا ابن اسمه جون، في خناقة من خناقاتهم خدت الواد ونزلت تتمشى بيه، خبطت الولد عربية ومات، اتهمته بأنه السبب في قتل الولد.
خلفوا ولدين مكانه، بس العلاقة كانت باظت، الخناقات بدأت تكتر ووتيرتها تعلى لحد ما مرة قامت من مكانها، ومدت إيديها بعلامة النازية، حس إنه مش بس خسر حياته الزوجية، إنما إنه عايش في كدبة كبيرة، ومحدش هينسى أبدا أبدا، إنه كان جندي نازي، واللي في القلب في القلب مهما حصل؟
كانت حياته الكروية انتهت، اشتغل بعدها في الإدارة، بس كان بيتعمد يشتغل في بلاد بره إنجلترا، اتكرم، خد ميداليات من الملكة وهو راجل عجوز، ولما قابلته، سألته إذا كانت رقبته لسه بتوجعه. إنما اللي كان لسه بيوجعه هو قلبه؟
اشترى بيت في إسبانيا، قرر يتقاعد فيه، وعاش هناك في بيته دا، لحد ما مات فيه.