«غداء فى بيت الطباخة».. الإنسانية كبديل للعداء.. والحب كبديل للكراهية
فى روايته «غداء فى بيت الطباخة» الصادرة حديثًا عن دار العين للنشر والتوزيع، يواصل الكاتب محمد الفخرانى ما بدأه فى روايته السابقة «لا تمت قبل أن تحب»، فى تأمل النفس البشرية والبحث عن جوهر الوجود الإنسانى، الذى ينتصر لقيم الجمال والسلام والعدل والمحبة.
بدأت الرواية بكلمة حرب وانتهت بكلمة سلام. وبين البداية والنهاية ثمة حكاية تستحق التأمل استطاع الكاتب ببراعة وبأسلوب وحوار وديالكتيك مسرحى.. يتخلل إليه بعض الفانتازيا.. أن يقدم أسئلته الخاصة، تلك الأسئلة التى تؤرق الإنسانية. والتى تضع علامات استفهامه على رءوس الجميع.
لا شك أنه منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية التى تدور اليوم، امتدت آثارها وتبعاتها على العالم أجمع.. فى ظل هذه الحرب يأتى الفخرانى بروايته منتصرًا للإنسانية على حساب أى لون أو قومية وأيديولوجية أو شعار.. يضع الفخرانى الإنسان نصب عينيه.. الإنسان فقط. الإنسان الذى يمكن أن يحب ويفكر ويبدع ويطبخ ويعلم فقط إذا وضع السلاح جانبًا.
جنديان يتصارعان كل واحد منهما يحارب فى جيش مختلف، أحدهما طباخ والآخر مدرس تاريخ، يسقطان فى خندق واحد، ضيق للغاية، يضطران للعيش والأكل والشرب وتأمل الحياة معًا حتى تصبح «أعينهما متقاربة، يمكن لكل منهما أن يرى نفسه فى عينى الآخر، ويشم رائحته، عرق وحرب ودم، وتحت كل هذا تسبح رائحة إنسانية خفيفة».
فى اللحظة نفسها حيث تواجدهما فى مكان واحد يبدو كأرض جديدة غير الأرض التى امتلأت بدماء القتلى، ولفترة طويلة، حتى أصبح الوجود داخل الرواية لهما وحدهما، زالت روح العداء بينهما، ذهبت كل الفوارق التى خلقت الحرب، حتى إنهما لم يحاولا معرفة أسماء بعضهما وكذلك القارئ لا يعرف لهما اسمًا فقط يعرف أنهما بشر ولا شىء آخر.. انتصار تام للإنسانية.
ولأن الرواية تطرح سؤال الحرب، تلك الكلمة التى وللأسف شكلت جزءًا كبيرًا من تاريخ الإنسانية. طرحت بدورها سؤال التاريخ وحقيقته.. ومن يكتبه أو يؤلفه، لنعرف أن حقيقة التاريخ تكمن فى «حكايات الناس العاديين، أشخاص نصادفهم فى شارع أو صحراء أو غابة أو مقهى، أو قطار..». فالتاريخ الإنسانى لا يمكن اختصاره فى حكى لبعض المعارك.
عن طريق الحوار الذى يدور بين كلا الجنديين نستطيع أن نرصد تحولات الأشخاص وتطورات الحكاية والنص.
فنرى أن أحدهما يقول للآخر متحدثًا عن تصنيفه للبشر داخل الحرب:
«حاليًا أصنفهم إلى شخص أقتله وشخص لا أقتله».
ليرد عليه الآخر:
«لم أصنفهم كانوا كلهم ناسًا.. ناسًا لا غير».
ويقول فى موضع آخر:
«أفكر فى الاختلاف على أنه فرصة للاستمتاع بالعالم والحياة».
فى روايته التى تعتبر نظرة مبدع للواقع الإنسانى والوضع الراهن، نجح الفخرانى بقصة شديدة الدلالة والرمزية، الحوار بداخلها هو رصاص مكون من كلمات، رصاص لا يؤدى إلى نزيف.. ولكنه يطرح أسئلة، تصطدم بعقل المتلقى القارئ ربما لتنبهه إلى أشياء غابت عنه وسط ضجيج المدافع والقنابل الذى يحاول السيطرة على المشهد.