مصر باقية على عهد فلسطين
رسائل عديدة حملها حضور الرئيس السيسى لمؤتمر دعم القدس بجامعة الدول العربية بالأمس.. سواء على مستوى اللغة.. أو على مستوى التصرفات.. دخوله القاعة مع الرئيس الفلسطينى يدًا بيد مثلًا.. استقباله الحار للملك عبدالله الثانى عاهل الأردن.. حضور الرئيس السيسى رفع مستوى الحضور فى مؤتمر دعم القدس لأعلى درجة.. وهو بحضوره يعطى رسالة لمن يريد أن يقرأ.. وهى أن مصر لن تتخلى عن فلسطين ولا عن القدس لأن هذا ثابت أصيل فى سياستها وفى ثوابت أمنها القومى.. وفى ثوابت دورها العربى.. وهى سياسة لا تتغير بتطور هنا.. أو تحرك هناك لأنها نابعة من حجم مصر فى المنطقة وفى صفتها الثابتة كأكبر دولة عربية، لذلك تتحرك مصر إزاء التصرفات التى تهدف لتغيير الطابع التاريخى للقدس كمدينة لكل الأديان.. حيث تدرك مصر أن السلام مع إسرائيل لا يعنى التفريط فى حقوق الشعب الفلسطينى ولا فى رمزية القدس للعرب جميعًا مسلمين ومسيحيين.. حيث هى مهد المسيح وفيها كنيسة القيامة.. وحيث هى أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى الرسول الكريم.. وحيث هى جزء من تاريخ الإنسانية ومن تراثها الدينى والروحى.. لا يجوز امتهانها.. أو دهس مبانيها بالجرافات.. أو تغيير الطابع العمرانى لها لبناء مستوطنات يسكنها غرباء عن القدس أو تبنى فيها مشاريع تجارية تغير من الطابع الروحى للمدينة كمدينة مقدسة.. يحمى وضعها القانون الدولى وقرارات مجلس الأمن ومواثيق اليونسكو.. كل هذه المعانى عبر عنها الرئيس فى كلمته أمام القمة والتى قال فيها إن مصر عقدت سلامًا مع إسرائيل منذ أربعة عقود، ولكنه سلام قائم على العدل، وأن هدف السلام كان التوصل لتسوية شاملة وعادلة تعيد حق الشعب الفلسطينى فى أرضه، وتكفل له إقامة دولته المستقلة على حدود ٤ يونيو ١٩٦٧، وأن تكون عاصمة هذه الدولة هى القدس الشرقية.. وأشار الرئيس إلى أنه من المؤسف أن تأتى القمة ردًا على إجراءات أحادية من جانب إسرائيل تتمثل فى إقامة المستوطنات فى القدس وهدم منازل سكانها واقتحام المسجد الأقصى.. والهجوم الدائم على المدن الفلسطينية.. وهى سياسات قال الرئيس إنها تخلق حالة من الاحتقان الدائم وتهدد بانفلات الأوضاع الأمنية.. فضلًا عن أنها تعوق حل الدولتين المتجاورتين وتضع الجميع أمام خيارات صعبة للغاية... كان الرئيس واضحًا ومباشرًا حين قال إن مصر ستستمر فى الدعوة لحل جذور الأزمة والمتمثلة فى الاحتلال.. لأنه هو السبب الرئيسى فى كل توتر واحتقان ومواجهات مسلحة.. تنفجر موجاتها المرة تلو المرة ويبذل الجميع جهدهم للسيطرة عليها وأولهم مصر.. لكن الرئيس أشار بصراحة إلى أن جذر الأزمة يتمثل فى الاحتلال مع مواصلة الدفاع عن الحق الفلسطينى.
ولم يكن غريبًا أن تسعى مصر بالتوافق مع كافة الدول الأعضاء فى المؤتمر إلى بيان ختامى قوى يضم تسعة عشر بندًا تؤكد كلها تمسك العرب بالحفاظ على هوية القدس ضد محاولات الضم أو الاستباحة أو الاستيطان من قبل غرباء أو تغيير الطابع الروحى للمدينة.. حيث أكد البيان على أمر ثابت وهو أن القضية الفلسطينية هى قضية العرب المركزية وأنه لا سلام بدونها وبدون حقوق الشعب الفلسطينى.. وهى بديهيات من المهم التذكير بها فى ضوء تطورات السياسة هنا وهناك ولدى هذا الطرف أو ذاك.. وأكد البيان أيضًا أن كل الخطوات الإسرائيلية لضم القدس وتغيير تركيبتها وتشويه شوارعها وهدم منازلها هى كلها انتهاكات فاضحة لكل القرارات الدولية ذات الصلة.. وتوقف البيان أمام محاولات إسرائيل لتقسيم المسجد الأقصى وتقييد حرية الصلاة فيه وإجراء الحفريات تحته لهدم أساساته.. وتوقف البيان عند سياسات إسرائيل الممنهجة لتشويه وتغيير الهوية العربية والإسلامية لمدينة القدس والسطو على التراث الفلسطينى وإغلاق المؤسسات الفلسطينية الثقافية التى تعمل على الحفاظ على هوية القدس والتى يقيمها أهلها.. وكذلك من خلال تغيير المناهج التعليمية التى يدرسها الطلاب فى مدارس القدس ووضع مناهج محرفة تضم معلومات مغلوطة عن تاريخ القدس ومقدساتها.. فضلًا عن الاعتداء على الطلبة والمدرسين الفلسطينيين وفرض عقوبات مالية وإدارية على المؤسسات التعليمية الفلسطينية التى ترفض تدريس المناهج الإسرائيلية التى تغير التاريخ بهدف شرعنة الاستيلاء على المدينة.. وكان من البنود التى تستحق التوقف أمامها التأكيد على المسئولية العربية والإسلامية الجماعية تجاه القدس ودعوة جميع الدول والمنظمات والصناديق العربية والإسلامية إلى ترجمة الدعم السياسى إلى تدخلات عملية توفر الدعم فى مجالى الاستثمار والتنمية لتنفيذ جملة المشروعات التى تقدمت بها دولة فلسطين لجامعة الدول العربية وكلها تهدف لإنقاذ القدس وحماية مقدساتها وتعزيز صمودها.. وكذلك تشجيع الدول العربية بالشراكة مع القطاع الخاص العربى لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة لأهل القدس بهدف مساعدتهم على الصمود.. وكان من النقاط الهامة فى البيان الختامى تثمين المؤتمر للدور الأردنى فى رعاية وحماية وصيانة المقدسات الإسلامية والمسيحية فى القدس.. وهو دور تاريخى للأردن.. كذلك نوهت إدارة المؤتمر بدور لجنة القدس برئاسة جلالة ملك المغرب محمد السادس والجهود التى تبذلها الوكالة المالية التابعة لها للحفاظ على هوية القدس... وهكذا يمكن القول إن مصر ومعها بقية الدول العربية ترسل رسالة للجميع أنها باقية على عهد فلسطين.. وأن السلام الحقيقى هو الذى يقوم على حل الأزمة من جذورها وإنهاء الاحتلال.. لا تفريط ولا إفراط.. هذا هو شعار مصر وسياستها الواقعية المتزنة.. لاحرب بدون مصر ولا سلام بدون مصر أيضًا.