هالة فؤاد تفتح خزائن التنويري المُتجدد.. جابر عصفور الذى تحرر من سجن الجسد وحلَّق (حوار)
كشفت الدكتورة هالة فؤاد، أستاذة الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، تفاصيل أول لقاء جمعها بالدكتور جابر عصفور (ولد في المحلة الكبرى في 25 مارس 1944 - 31 ديسمبر 2021)؛ وهو لقاء لم تشعر فيه إلا أنه "إنسان مغرور".. ولكن النظرة الأولى لم تدوم بعد وسرعان ما تحولت لحب دام طويلاً في "عش عصفور".. حب تجاوز الروح إلى العقل.
جابر عصفور الذى ظلّل بجناحيه حول قفص محبوبته التي ما إن تجلس وحيدة في عزلتها الاختيارية؛ حتى تتذكر سيرة الحب التي كانت، لتفيض دموعها رقراقة عن أيام وسنوات مضت؛ تجد هالة فؤاد فى قراءة أعماله أنها ليست سهلة، رغم أنها تبدو سلسة، لكنه السهل الممتنع.
أرملة المفكر والتنويري الراحل أكدت خلال لقائنا معها، أنها لم تغضب سوى من جامعة القاهرة وكلية الآداب؛ لتقصيرهما في حق زوجها الذي لا يعد شخصًا عاديًا، فمثله لا يمر على الكلية إلا كل 50 عامًا.
كما لامت زوجة "عصفور الثقافة" الأزهر وشيخه د.أحمد الطيب الذي لم يكلف خاطره ويقدم واجب العزاء في فقيد الثقافة العربية جابر عصفور الذي كان يحب الإمام وبينهما«عيش وملح»، حتى وإن كان هناك خلاف بينهما فمن المفترض ألا يفسد هذا حبال الود بين الاثنين.
«الدستور» كانت هناك حيث تعيش زوجة الكاتب الكبير في منزلها الكائن بشاره مصدق بمنطقة الدقي بالجيزة، لتفتش في أوراق ودفاتر الرجل الذي رحل عن دنيانا في (31 ديسمبر 2021)؛ لتحكي رفيقة الدرب والكفاح عن سنوات المجد والتجاذبات الثقافية والمعارك التي خاضها الرجل بمفرده، لإعلاء شأن الثقافة في وطن يبحث عن بوصلة كان جابر عصفور يقف وحيدًا يحدد معالمها وخريطتها، وإلى نص الحوار:
◘ بداية.. ماذا عن أول لقاء جمع بينالتلميذة وقتها هالة فؤاد ود.جابر عصفور؟
-"بداية علاقتي بجابر كانت عبارة عن «خناقة» حينما التقينا أول مرة، فقد جاء ذات يوم عندما لمحت الدكتورة سهير القلماوي تسير فى ممر كلية الآداب جامعة القاهرة، فذهبت إليها، وطلبت أن أقترب وأتعلم منها، وبالفعل فتحت لي مكتبها فى قسم اللغة العربية كل يوم أربعاء على أن أجلس معها ساعتين تقريبًا ووقتها كنت أحاول أن أكون شاعرة، لكن د.سهير لم تقتنع بي كشاعرة أكثر من كونى باحثة متميزة ينتظرها مستقبل باهر ومحتمل.
وحدث أن التقيت في مكتبها بـ"عصفور" بعد عودته من الإعارة بالكويت، وكان دائمًا ما يدخل مكتبها مصحوبًا بضجة تميّزه، وكان دخوله عبارة عن حالة من صخب، حيث يتمتع بالأستاذية والثقة في النفس؛ وقتها ساورني شعور بأنه إنسان مغرور، بالمناسبة انطباع قد تجده في كل من رآه للوهلة الأولى، لكن ما إن تستمر علاقته به يعرف فيما بعد أنه عكس ذلك تمامًا، وقتها أخبرته د.سهير أنني طالبة في قسم الفلسفة، ليرد عليها عصفور بإيماءة فقط، من رأسه، رددت عليها بنفس الإشارة.
◘هل جمعكما لقاء آخر وماذا ترك من انطباع وقتها غير "لغة التحدي" بالإشارات بين التلميذة والأستاذ؟
- نعم، التقينا مرة ثانية في مؤتمر للجامعة العربية عن الإبداع العربي، وقتها كنت من عشقي لتلميذة طه حسين أرتدي ملابس، تشبه إلى حد كبير، ما ترتديه سهير وفى يدى شنطة كبيرة مثلما كانت تفعل القلماوي وقتها قال لي جابر:" إيه اللّي انتى عاملاه فى نفسك ده.. مكبّرة نفسك كده ليه؟"، وقتها قلت لنفسي:"إيه الراجل السخيف ده"، ثم طار عصفور ثانية إلى الكويت ولم نلتقِ الا بعدها بفترة طويلة كانت وقتها د.سهير بلغت من الكبر عتيًا، وكنت أتردد على منزلها لزيارتها والاطمئنان على صحتها وأحوالها، كما كنت اذهب الى د.زكى نجيب محمود وجميعهم خلقوا لدى تلك المساحة الإنسانية باحتضانهم لي فى هذا الوقت.
تنظر د.هالة بعيدًا وكأنها تستعيد ذكريات ما مضى من أيام خلت: "فى هذا التوقيت أيضاً تعرفت على د.نصر حامد أبو زيد في قسم اللغة العربية الذى شكّل تحولاً كبيرًا في حياتي؛ وقتها جعلني أبو زيد أكثر ميلًا للثورية؛ حتى التقيت بجابر مرة أخرى بعد عودته من سنوات الإعارة حيث عملنا في إحدى لجان امتحانات الكلية، ووقتها اكتشفت مدى تميزه الإبداعي كباحث وأستاذ وقدرته على مساعدة طلابه والباحثين بتقديم يد العون لهم، فى الوقت الذى كنت أقوم فيه بدراستي في الماجستير حول الإنسان الكامل عند ابن عربي، واكتشفت مدى الدراسة الثقافية الموسوعية لدى جابر ومعرفته الرصينة بكافة دوائرها الإبداعية، الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام والفقه والتصوف، ناهيك عن علوم اللغة والبلاغة والنقد الأدبي القديم وهو تخصصه الأثير، وكان هناك مشروع بدأه عصفور ولم يكمله حول نظرية الفن أو فلسفة الفن في التراث الإسلامي، واختار الفلسفة الإسلامية والتصوف والفقه،وبالفعل أنجز بحثا هاما في هذا الصدد عند الفارابي الفيلسوف المسلم وقد ضمنه كتاب قراءة التراث النقدي وكان يريد ان يقوم ببحث الموضوع عند ابن عربي كصوفي وعند ابن حزم كفقيه، لكنه لم يكمل المشروع ولكنني وجدت بحثًا غير مكتمل بين اوراقه حول نظرية الفن عند ابن حزم وانوي نشره مع مقدمة.
◘لقاءان وانطباعات مختلفة شهدتها جلساتك السريعة مع د.عصفور.. ماذا سجّلت ذاكرة د. هالة عن صاحب "المرايا المتجاورة"؟
- تعرفت على جابر عصفور عن قرب ووجدت أن ما كان يميزه إلى جانب قراءاته المتعددة أنه كان يؤمن بالمناطق البينية فى المجالات المعرفية؛ فهو ليبرالي منفتح غير مؤدلج، استمرت علاقتي به فى إطار صداقة وعلم وتلمذة، وعندما دخلت بيته أصبحت على علاقة وثيقة بالعائلة، سواء ابنته أو زوجته او ابنه وهى علاقة مركبة تشكلت على مدى 33 عامًا حتى وفاته، وعلى مستويات عديدة، بحيث أصبح هناك مشترك إنساني يربطنى به وبعالمه ورؤيته، ولم أعد أتعامل معه على أنه رجل عادي، بل كونه مؤسسة فى حد ذاته.
◘ماذا تتذكرين من مواقف كان فيها د.عصفور حادًا خلال علاقتة "تلامس الأفكار".. وكيف كان ردك عليها؟
- حين تولى رئاسة المجلس الأعلى للثقافة، لم يقم باستدعائي للعمل معه، بل قال لي أنت لا تصلحين لهذا النوع من العمل وركزي في أبحاثك، وكذلك بعد إقامته أول مؤتمر عن أبي حيان التوحيدى وكنت قد طلبت أن أشارك فيه ليأتيني رفضه: "لما تنضجي شوية تبقي تشاركي" وقتها قامت د.ألفت الروبى بترشيحي بعد حصولى على الدكتوراه، لكنه قال لها:"على مسؤوليتك؟" رغم أن بحثى شكل علامة متميزة فى تخصصي، وكان نواة لكتاب عنه استمر العمل فيه على مدي 19 عامًا، وعندما قرأ "جابر" بحثى عن أبو حيان وكان ذلك في منزله عنفني بشدة رافضًا نشره، وقتها خرجت من بيته وأنا أبكي، أذكر وقتها أن زوجته قالت له:" ماذا فعلت بها" ليرد:"لن أنشر لها هذا البحث إلا بعد أن تقرأ جيداً"، لأعاود العمل فيه حتى اقتنع بنشره أخيرًا.
◘بنظرة فسلفية لأستاذة جامعية.. كيف قرأت هالة فؤاد عقل جابر عصفور الذي طالما نال إعجاب خصومه قبل مؤيديه ورواده؟
- أهم ما كان يميز جابر أنه لا يكف عن الاندهاش أو العمل أو التساؤل، ودعنى أقول إنه رجل لا يمكن أن يمر دون أن تلحظه، وبالمناسبة أن جاذبيته فى الحقيقية في إيمانه العميق بالعقلانية، وكلامه عنها هو كلام حقيقى، إضافة الى أن المخيلة عنده توازى العقلانية وهو كائن يعيش الأمور بقلبه وهو ما يفسر لنا أمراضه؛ لأن انفعالاته دفع ثمنها كثيرًا.
◘ هل جمع بينكما مشروع علمي مشترك يقارب بين الفلسفة واللغة العربية؟
للأسف لم يحدث، ربما لكون جابر عصفور من الجيل الذي لا يعمل إلا بمفرده، وأيضًا في وطننا العربي ليس لدينا اتجاه نحو العمل الجماعي، ربما لكوني كنت بطيئة في مسيرتى العلمية، وربما لكوني فردية أيضًا، وربما هناك مسألة الأستاذ والتلميذ الذي يرغب في أن يتجاوزه ويتمرد عليه وهى ليست مسألة فارق سن؛ بل فارق خبرة وعلم، وكذلك تفرده في مسألة الاحتكاك بالعالم الخارجي، وهو ما تكلل في سفره لجامعات مثل "ويسكونسن" و"هارفارد" وفى السويد حيث عمل مع هؤلاء العلماء فى جامعاتهم بأدواتهم مثلما فعل إدوارد سعيد من قبل، دعنى اؤكد أن عصفور إذا قرر أن يستمر في الغرب فربما أصبح لدينا حينها إدوارد سعيد الأول والثاني، لكن جابر قرر أن يجعل مشروعه لبلده.
فعندما تقرأ أبحاثه فى الماجستير والدكتوراه على نحو خاص ترى مستوى من الرصانة العلمية المتفردة وهو على عكس جيلنا المتسرع، وربما لكون جيلي عاصر هزيمة المشروع الناصري وهو ما كان له أثره الكبير على الجيل بأكمله، خاصة أن وعينا عندما تشكل كان المشروع الناصري قد انسحق، بينما تكون فى مرحلة من الانفتاح الساداتي وصعود الجماعات الإسلامية وجميعنا كجيل اتجه لحل مشكلاتهم بالخلاص الفردي، وذلك من خلال مشروعاتهم الخاصة، لكن لم يستطع أحد أن يكون حالة أستثنائية، ويعتبر جيل عصفور جيل الستينيات هم الأكثر حظاً ولا ننسى أن عبد الناصر هو مَن عيّنه فى الجامعة، وهو ما انعكس على مشروعاتهم الفكرية وحتى ممن ساهموا فى جيل التجربة الليبرالية، وجابر كان يناقشني برحابة صدر رغم قصور أدواتي المعرفية والمنهجية في أحيان كثيرة، وكان يعرف كيف يوجهني ويستفزني لكي اذهب وأبحث بنفسي وأتعلم كل جديد.
◘ أسئلة حائرة في الوسط الثقافي عن مصير مشروعات جابر عصفور الثقافية التي لم تر النور بعد.. هل هناك مخطوطات للراحل تعملين على تقديمها للمكتبة العربية؟
جابر لم يترك مشروعات فكرية، لكن آخر ما كتبه كان عن يوسف إدريس وقصصه وهو منجز لم يمهله القدر لاستكمال فصوله، وأحاول جاهدة أن أقدمه قريبًا إلى الروائي محمد المخزنجي ليكتب له المقدمة، لكن المشروع الأكبر لدى جابر كان عبارة عن بحث كتبه فى إحدى مجلات الجامعة الأمريكية بعنوان "بلاغة المقموعين"، وهو بحث شديد الجمال والأهمية وكان يعتبره نواة لمشروع كبير، وكان يتحدث عن انتقالنا إلى 6 أكتوبر لمدة سنة، حتى ينتهى من هذا الكتاب، لكن القدر كان له رأي آخر في إنجاز ما كان يتمنى.
دعنى أشير إلى بحث جابر عن المقموعين ألهمني في معالجتي لكتابي "المثقف بين سندان السلطة ومطرقة العامة" ودفعني إلى الالتفات إلى منطقة النصوص السردية التى تقدم نصائح الأمراء والملوك، وإلى أي مدى هى نصوص "تلعب على الوجهين بمراوغة ما، وأنا أنتوى أن أقدم عملًاً بعنوان" الكلام فى حضرة الطاغية" عن "كليلة ودمنة" وكنت قد قررت أن أهدي هذا الكتاب إلى د.جابر عصفور، وأنوه عن مدى استفادتي من أفكاره الهامة حول بلاغة المقموعين في التراث العربي الإسلامي، وأتمنى أن ينال الموضوع اهتمام الباحثين في مجالات البلاغة والنقد.
◘هل تعرض جابر عصفور لمحاولات إرهاب من قبل هؤلاء المتطرفين؟
- أرى أن ما تعرض له جابر هو أنه سُب كثيرًا من السلفيين والماركسيين، لكن التعرض لمحاولة اغتياله لا اتذكر سوى واقعة وحيدة أثناء قيادة سيارته هرب سائقه أبو زيد من أحد سائقى الدراجات النارية الذى طارده، ولا ننسى أن وزارة الداخلية عينت له حراسة على منزله لفترة حين كان عصفور في "القائمة السوداء" للاغتيالات التي كانت تستهدفها جماعات الدم.
◘ على ذكر جماعات الدم والأعمال الإرهابية.. كيف كان وقع اغتيال فرج فودة وتكفير نصر حامد أبو زيد ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ على"عصفور" الذي كان أحد أعمدة مشروع التنوير في مصر.. وكيف استقبل كل هذه الأحداث المأساوية التي عانى منها الوسط الثقافي؟
أرى أن جابر فى أزمة نصر حامد أبو زيد كان "حذو النعل بالنعل" حتى سفره خارج مصر، وما حدث من أزمة نجيب محفوظ، وقبله فرج فودة وعاطف العراقي، كل هذا جعله ينتبه إلى ضرورة استدعاء تراث النهضة التنويري، ومن هنا أصبح يهتم ألا يقتصر عملنا على التخصص فى الشعر والبلاغة؛ بل على المثقف أن يلعب دورًا أخر وكبيرًا، لذا ستلاحظ أن كتبه "هوامش على دفتر التنوير، دفاعاً عن العقل، ضد الإظلام، وسلسلة المواجهة التى سأقوم بإعادة طباعتها قريبًا في هيئة الكتاب وكانت كل هذه الكتابات تنبه إلى أن الكارثة قادمة وأنها ليست حوادث فردية وأن ما حدث لـ حامد أبو زيد ليس أمرًاً عابراً خاصة مع وجود قانون حسبة كان جابر يدرك أن الذاكرة الوطنية للمصريين بدأت تشوش عن عمد وبفعل فاعل وهو ما جعله يستدعى هذه الذاكرة خاصة النخبة التنويرية فى التجربة الليبرالية فى أوائل القرن العشرين.
من هنا بدأ عصفور ينتج عدد من الكتب ابتداءً من المؤلفات الصغيرة حتى كتابه الأكبر الذي ركز فيها على العقل ودوره فى إحداث تغيير حقيقي.