الباحثة التونسية آمال قرامي: انتهى عصر توظيف الدين وفرض سياسات الطاعة (حوار)
منذ رسالتها للدكتوراه التي جاءت بعنوان "ظاهرة الاختلاف في الحضارة العربية الإسلامية: الأسباب والدلالات" في العام 2004، انتهجت الباحثة التونسية آمال قرامي، أستاذة الدراسات الجندرية بالجامعة التونسية، مسارًا بحثيًا تركز حول قضايا النوع الاجتماعي والفكر الإسلامي، وما يتصل بهما من موضوعات، وفي ذلك صدر لها عدد من المؤلفات من أبرزها: "حرية المعتقد في الإسلام"، و"النساء والإرهاب"، و"الإسلام الآسيوي"، كما أشرفت حديثًا على إصدار مجلة "عدسات جندرية" المتخصصة في قضايا النوع الاجتماعي.
يناقش هذا الحوار مع قرامي عددًا من الموضوعات ذات الصلة بقضايا الجندر، التي تعرّضت لها الكاتبة في أعمالها، مُتطرقين للحديث عن آفاق التغيير المُحتملة بالفكر الديني في المنطقة، ومن ثم بأوضاع المرأة العربية، لا سيّما مع وجود عدد من المتغيرات بالسنوات الأخيرة كان أبرزها الانقلاب الفكري في السعودية على الوهابية، وانتكاسة الإسلام السياسي بالمنطقة العربية، وأيضًا؛ انتفاضة الإيرانيات ضد قوانين "الحجاب".
- أشرفت حديثًا على إصدار مجلة "عدسات جندرية".. ما الذي تتطلعين لتحقيقه عبر هذه المجلة؟
-عندما فكرت في تأسيس أول مجلة تعنى بالبحوث والدراسات الجندرية (النوع الاجتماعي) كنت أستحضر افتقار المكتبة العربية والأكاديمية العربية إلى مؤلفات تخصّ المقاربات الجندرية والجدل الذي يدور حول عدّة قضايا ومصطلحات. فنحن لا نعثر على مجلات متخصصة في مجال البحوث الجندرية، وهو وضع يجعلنا تابعات وعوالات على ما تنتجه الجامعات الغربية ومراكز البحث المختلفة والتي لا تتناول بالضرورة القضايا التي تشغلنا كما أنّها قد تفرض مقاربات لم نستوعبها بعد ويطلب منا كدارسات أن نطبقها دون نقاش.
العامل الثاني الذي دفعني إلى إصدار هذه المجلة متصل بالصعوبات التي تجدها الباحثات عندما يقرّرن نشر مقالاتهن، ولذلك كان إصدار المجلّة في نظري، مناسبة لتأسيس فضاء مشترك تتواصل من خلاله الدارسات ويتقاسمن الخبرات ويقارن بين مختلف البحوث الميدانية إلى غير ذلك، ونأمل أن تتيح لنا هذه المجلّة تطوير الحوار الفكري بين المتخصّصات والمتخصصين في مجال الدراسات الجندرية ومناقشة المصطلحات والمفاهيم والنظريات فضلا عن إثارة قضايا تتصل برحيل المفاهيم والمقاربات وطرائق تبيأتها وتعريبها إلى غير ذلك من المسائل.
- ما أبرز المحاور المُتعلقة بالجندر التي تظنين بأنه يجب إيلاؤها مزيدًا من الاهتمام والدراسة بالعالم العربي؟
-الموضوعات التي تناولها العدد الأول على سبيل المثال ذات صلة بمحور''' الجندر والسنّ'' وهو موضوع مغيّب وبراديغم قلّما ينتبه له الدارسون والدارسات، والحال أنّه مؤثر ويتقاطع مع الجندر والجنسانية والفقر والطبقة والعرق وغيرها من العناصر.
كما أننا تعرضنا في العدد الثاني لثنائية المركز والهامش؛ معنى أن يكون المرء على هامش المجتمع، وكيف يقاوم أو يعبّر عن ذاته وقناعاته؟ وأتطلع في الأعداد القادمة لطرح قضايا تتعلّق بالنفي والسجن والهجرة والعدالة الاجتماعية والعدالة المناخية وكتابة الذاكرة وغير ذلك.
- أطلقت مشروعًا بحثيًا أفضى إلى صدور مؤلف جماعي بعنوان "أنماط الرجولة".. ما الذي أسهم برأيك في تعزيز أنماط بعينها من الرجولة في مقابل إقصاء البعض الآخر؟ وما تأثير تلك التمثلاث؟
-تظهر في سياق الأزمات، مجموعات تنزع إلى التعبير عن نمط" الرجولة المهيمنة"، ولعلّ أقرب مثال دال على هذا النمط الرجال الذين يقتّلون الفتيات والنساء اللواتي لا يمتثلن للأوامر ويتمردن على القرارات والرغبات، ويصممن على التعبير عن ذواتهن وحقّهن في تقرير المصير والاختيار، وهنا يكون التقتيل إثباتا للرجولة الصامدة أمام التحولات الاجتماعية، وخاصّة ما يتعلّق منها بمكانة النساء ووعيهن بحقوقهن، والقادرة على الفعل. ويعدّ التقتيل أيضا، تأديبا للمتمردات وتشفيا من اللواتي لا يقبلن الرجل المتسلّط "الآمر الناهي". وفي المقابل تكثر الممارسات الإقصائية لأنماط أخرى من الرجولة التي لا ترتقي للأنموذج المنشود في المجتمعات العربية لنمط "الرجولة الكاملة".
- درستِ الإرهاب من منظور جندري في كتابك "النساء والإرهاب".. فما الأبعاد المختلفة التي يكشفها هذا المنظور عن الظاهرة؟
-قلّما يختبر الدارسون العرب المتخصصون في دراسات الإرهاب والدراسات الأمنية وغير المتخصصين المقاربات المتعددة المتوفرة حول دراسة ظاهرتي الإرهاب والتطرف العنيف، ولذلك ارتأيت أن أقوم بمراجعة الأدبيات النسوية حول الموضوع ومساءلتها وإبراز مدى ملاءمتها أو تعارُضها مع السياق العربي الإسلامي، إذ أنّ بناء معرفة حول الإرهاب قد تقاطع مع ما خلّفته سياسات شنّ الحرب على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر 2001 من كره للعرب والمسلمين ومعاداة للإسلام والثقافات المغايرة، وكذلك مع مشروع الإمبريالية الذي شاركت فيه فئة من النسويات البيضاوات الداعمات للنظام.
لذلك فإنّ تأطير الإرهاب بربطه بمختلف السياقات مهمّ، وممارسة النقد النسوي تعدّ مطية لتفكيك ما أُنتج حول علاقة العرب والمسلمين بالإرهاب ومقارنته بما أنتج حول الإرهاب في مجتمعات أخرى قلّما نعيرها اهتمامًا.
أعتقد بأنّ الإضافة التي يقدمها الكتاب تتمثل في لفت الانتباه إلى المُنظرات والباحثات في مجال الإرهاب ومناقشة مصطلحات ونتائج توصلن إليها، بالإضافة إلى التركيز على النساء الفاعلات في مجال الإرهاب تنفيذا للخطط التي تضعها القيادات أو محاكاة لهم.
إنّ اعتماد المنظور الجندري يسمح بإرباك التمثلات التي تخص بناء الأنوثة والذكورة؛ فتمثيل النساء على أنّهن ضحايا الجماعات المتشددة ما عاد مقبولًا أمام تواتر الحجج والشهادات التي تؤكد نهوض فئة من الشابات والنساء بأدوار لا تقل أهمية عن أدوار الرجال من تنظيم لوجستي وتفجير وتعذيب للسبايا وجوسسة وغير ذلك.
هذا المنظور أيضًا يُعيننا على فهم بنية العلاقات القائمة على الهيمنة فأحيانا تكون المرأة ضحية عنف زوجي أو عائلي فتتوقع أن تجد لدى الجماعة المتطرفة إنصافًا وتكريمًا، ولا يمكن أن نتجاهل أنّ الرجل المسحوق والباحث عن الاعتراف أو الاندماج في مجتمع يعيّر الرجال بالفقر والعجز والبطالة قد ينجذب إلى الخطابات والدعاية التي تقوم بها الجماعات المتشددة لا سيما وأنّ الجهاديين يستثمرون هذا السياق فيوحون للشباب وذوي الهشاشة بأنّهم سيحققون الرجولة "الكاملة" في ظلّ "الدولة الإسلامية".
- في كتاب "في النظرية السياسية النسوية" رأى المؤلفان أن "ثقافة الهيمنة الذكورية التي تُشكل عُمق المخيلة السياسية في المجتمع العربي" هي إحدى أسباب محدودية تأثير التيار النسوي بالعالم العربي.. هل تتفقين مع هذا الطرح؟
-نعم، ثمّة وشائج بين ثقافة الهيمنة التي نرسخها من خلال التنشئة الاجتماعية والتربية والتعليم وبناء العلاقات والتقاليد والعادات والقوانين وسياسات الضبط والمراقبة ووسائل الإعلام ومختلف الأشكال الثقافية وما تعيشه الحركات الاجتماعية، وعلى رأسها الحركات النسوية.
وعندما تتعاضد الأيديولوجيا الذكورية مع النظام السياسي والسياق الاقتصادي المتأزّم لا مجال للحديث عن نجاعة الخطط والبرامج التي تصوغها مختلف الحركات الاجتماعية أو نجاح التيارات النسوية في تغيير العقليات أو تحديد التأثير الفعلي لسياسات الوعي النسوي والجندري، إذ تبقى هذه المسائل رهينة إمكانات المقاومة ومدى استعداد الناس للانخراط في مسار التغيير واقتناعهم بأنّ مطالب النساء وقضاياهن هي أيضًا سياسية. فما معنى السكوت عن ظاهرة تقتيل الشابات والنساء؟ وما معنى عدم الحرص على تطبيق ما جاء في قانون مناهضة العنف ضد النساء؟ وما دلالة حركات النكوص التي يناصرها "التقدميون" و"الحداثيون" حفاظا على الامتيازات الذكورية؟.
يُضاف إلى كلّ ذلك استنزاف النشاط النسوي في المطلبية والدفاع، وعدم تفرّغ الأكاديميات النسويات والمُمارسات النسويات لتحليل هذه الظواهر بعمق، إذ مطلوب منهن أن يكن في الصفوف الأمامية في كلّ الاحتجاجات والتحركات وأن يناصرن ويدافعن ويكنّ صوت من لا صوت لهنّ.
- في كتابك "الإسلام الآسيوي" يبرز دور السياقات المجتمعية في تشكيل أنماط مختلفة من التدين.. ما سبب عدم بزوغ هذا الفكر في الخطاب العربي؟ وما الأهمية التي يُمثلها الوعي به في تحرير الدين من مُحتكريه؟
-تتأثّر أنماط التدين في آسيا بالموروث والمعتقدات ومختلف الممارسات فتحدث الهجانة وتتجاور ديانات مختلفة ويحصل التثاقف وكل هذا النسيج يعكس فسيفساء تمكن عدّة فئات من الاندماج واستضافة الآخر المغاير والسعي إلى العيش معا. ولكن لا بد أن ننتبه إلى أنّ هذه الأنماط تتأثر بالسياقات المختلفة السياسية والأيديولوجية والفكرية وغيرهم؛ الأمر الذي يجعلها تتأقلم مع كلّ سياق فتنفتح تارة وتنغلق طورا.
يمكن القول إنّ هيمنة الإسلام العربي (سردية محمد العربي، والعربية لغة القرآن...) وتمثل أصحابه لأنفسهم على أنّهم أفضل من الأقليات التي تعيش على هامش المركز قد جعل المسلمين العرب أكثر تشبثا بأحادية الرأي والتصور والخطاب وأكثر تصديا للتعدد والتنوع، إذ رأوا في ذلك خطرًا يهدد الانسجام والتجانس. إنّ التنميط يطمأن ويوهم الناس بأنّهم كالبنيان المرصوص في حين أنّ التعدد يربكهم ويعبث بقناعتهم ويدفعهم إلى المقارنة والتفكّر، ولا وقت للجموع للتبصّر.
- إن كانت الأنساق الثقافية تتأثر بالنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. فهل يدفعنا المشهد الراهن، لا سيّما الانقلاب الفكري في السعودية على الوهابية والتمرد الإيراني الراهن وانتكاسة الإسلام السياسي، للأمل في تغيير فعلي ومؤثر بالفكر الديني في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وتغير في أوضاع المرأة العربية وتحررها من الأغلال التي فُرضت عليها باسم الدين على وجه الخصوص؟
-الأحداث مختلفة على مستوى السياق والأدوار التي يلعبها الفاعلون؛ فالوضع في السعودية لا يقارن بالمسار الاحتجاجي الذي تقوده الإيرانيات.. يجسّد الوضع الأول الإرادة السياسية الذكورية أي التغيير من أعلى لا من القاعدة ولذا فإنّه مرتهن بها، يكفي أن تتغير السياقات حتى تتغير مكانة النساء وقد تتراجع. ثمّ هل يمكن قراءة الانفتاح على أنّه ثمرة وعي وتغيّر في البنى الذهنية أم إنّه شكلي؟ وهل سُئلت النساء عن تصوراتهن لمسار التغيير وأدواته وأهدافه أم إنّهن الحاضرات الغائبات؟.
أمّا احتجاجات الإيرانيات تعبير عن الإرادة النسائية والقيادة النسائية التي قررت امتلاك الشوارع والتعبير عن الغضب والدخول في مواجهة مع الملالي ودفع الثمن، كلّ ذلك من أجل تحرير الفتيات وتأمين مستقبل أفضل للأجيال القادمة.. واهمٌ من يعتبر أنّ التحركات النسائية مرتبطة بنزع الحجاب وتحرير الأجساد؛ إنّها ثورة على الأنظمة الشمولية وعلى السلطة التي تتواطؤ من أجل مصادرة حق الفرد في العيش الكريم والمعاملة الإنسانية، وعندما تثور النساء ويصممن على المواجهة طيلة أسابيع فإنّ ذلك مؤذن بتحولات كبرى في المنطقة.
- أي قراءة للدين قد تنجم عن مثل هذه المتغيرات لا سيما وأننا نعرف أن حضور الدين في الحياة العامة غالبا ما يرتبط بالسياق الذي يوظفه حسب أهدافه وتطلُعاته؟
-الرسائل التي وصلتنا واضحة لا غبار عليها؛ لقد انتهى عصر الشيوخ المتحكمين في وعي الناس والفارضين سياسات الطاعة والإذعان من خلال توظيف الدين.. إنّها إرهاصات تشير إلى الخروج من عهد العبودية إلى عهد التحرر ولكنّ هل البدائل متوفرة؟ وهل أدّت مؤسساتنا التعليمية والثقافية والإعلامية دورها على أكمل وجه حتى تفرز كفاءات قادرة على طرح مشاريع تأسيسية جديدة؟ ذاك هو الإشكال المطروح علينا في عالم يزداد فيه البؤس والحاجة إلى المخلص.