2/2..
وليد الخشاب: حاربت كثيرا من أجل الشعر.. وقريبا جزء ثان من سيرتي الذاتية شعريا (حوار)
وليد الخشاب، واحد ممن يملكون العديد من المواهب مثله مثل صلاح جاهين وغيرهم، هو أستاذ ومنسق الدراسات العربية بجامعة “يورك” بكندا منذ عام 2007، ومدير جماعة الدراسات العربية الكندية.
حصل الخشاب على الدكتوراة عام 2003 من جامعة مونتريال في السينما والأدب المقارن وعنوانها "الميلودراما في مصر".
وفي عام 2004 أدار تحرير كتاب: "العرب: الخروج من الأزمة؟" المنشور في دار كورليه الفرنسية، وأتبعه بستين فصلاً في كتاب ومقالاً أكاديمياً حول الثقافات العربية والإسلام، لا سيما قضايا الهوية الثقافية والحداثة، لا سيما في السينما والأدب والثقافة الدارجة.
ونشر الخشاب العشرات من القصائد والدراسات المترجمة من وإلى الفرنسية. ترجم إلى العربية لاكان وتودوروف ونشر الترجمة العربية لكتاب زومتور العمدة: "مدخل إلى الشعر الشفاهي"، بالإضافة إلى رواية وديوان لمنى لطيف. لوليد الخشاب أربع مجموعات شعرية: الموتى لا يستهلكون (2001) التي (2013) قمر مفاجئ (2015) كشك اعتماد (2019)، الدستور التقت الدكتور وليد الخشاب.
وكان هذا الحوار
_ كان لك الكثير من اللقاءات الفكرية والمعرفية التنويرية جمعتك بالدكتور الناقد جابر عصفور كيف إذا ترى أصداء تلك المحاورات في هذه اللحظة التاريخية الرجراجة والتي يسيطر فيها الخطاب الديني السلفي/ الظلامي؟
كنت جار الدكتور جابر عصفور في القاهرة، بين عمارتي وعمارته أمتار معدودة، وأشعر بأسى شديد لأن الظروف لم تسمح لي بمقابلته قبل رحيله. اتصلت به قبل سفري عام 2021 وطلبت مقابلته، لكن لم يكن الوقت مناسبا له.
وعند عودتي إلى القاهرة في رحلتي التالية، وصلت وقد نقل إلى المستشفى في مرضه الأخير. للدكتور جابر فضل علي، لأنه أتاح لي فرصة نشر أول مقال محكم بالعربية أكتبه في مجلة فصول، بعد ترشيح الأخ والصديق الدكتور حسين حمودة، إلى اليوم، أفتخر بمساهمتي في العدد الأول لفصول عندما أعيد إصدارها برئاسة جابر عصفور، كما أفتخر بمساهمتي على مدار سنوات في مجلة أدب ونقد برئاسة تحرير فريدة النقاش، فكلا المثقفين صاحب فضل علي. وإلى اليوم أستعين بمنجز الدكتور جابر عصفور في نظرية التنوير العربية في دراساتي، لا سيما عن مفهوم الاقتباس، حيث أقارن بين تنظير الدكتور جابر لدور الترجمة في نقل الحداثة وما أطرحه من دور الاقتباس في هذا الصدد. لكن الحديث عن جابر عصفور وفضله لا ينفصل في رأيي عن الحديث عن دور الدكتور سيد البحراوي، الذي كان زميلا للدكتور جابر والذي درسني مادة الأدب العربي لعامين متواصلين حينما كنت في مرحلة الليسانس. جابر عصفور قد صاغ نظرية التنوير بإعادة تأسيس منجز ما سمي عصر النهضة العربي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. أما سيد البحراوي فقد حاول تأسيس نظرية لنقد الحداثة من حيث هي حداثة تابعة (للغرب، وللبورجوازية الغربية)، وبالتالي قدم نقداً لسلبيات الحداثة العربية، بسبب احتمال تكريسها لهيمنة الغرب الثقافية، ولم يستخدم تعبير التنوير للتعبير عن ذلك المفهوم.
بمعنى ما، على تفاوت مواقف الأستاذين ومساريهما الفكريين، إلا إن الجهد الفكري والنقدي الذي قدمه كل منهما يتكامل مع منجز الآخر، من احتفاء بالحداثة حتى وهي مستوردة، لأنها العاصم من ظلمات اليمين المتطرف، مع الاحتفاظ بمسافة نقدية من تاريخ الحداثة الذي يحمل في طياته خطر الهيمنة على الآخر الأضعف، أو التبعية للآخر الأقوى. وأتمثل الفكرتين في دراستي لما أسميه "اقتباس التنوير".
_عن علاقتك بالأدب مرورًا بالسينما الكوميدية، لماذا كان الدافع لاختيارك تلك المحطات مع سلمى مبارك تحديدا، كيف كان الاتفاق وعلى أي الأسس الفنية أو الفكرية الجمالية اجتمعتما معاً؟
كتبت مع الدكتورة سلمى مبارك ثلاث مقالات وحررنا عدداً خاصاً من مجلة أكاديمية وكتاباً كبيراً، وتكون بذلك أكثر من تعاونت معه في التأليف الأكاديمي المشترك، ومعظم تلك الدراسات والمطبوعات تدور حول الاقتباس في السينما. كنا زملاء في مرحلة الليسانس، وكنا تلميذين للدكتورة أمينة رشيد في قسم الآداب الفرنسية بجامعة القاهرة، وكنا -مع مي التلمساني- أول من نجح في تسجيل موضوع للدكتوراة في المقارنة بين الأدب والسينما في منتصف التسعينات في آداب القاهرة. فمنذ تخرجنا أنا وسلمى ونحن نعمل كلٌ من ناحيته في مجالات الأدب المقارن والمقارنة بين الأدب والفنون، وتعرض كلانا لحملة من بعض الأساتذة المحافظين الذين اعتبروا أن السينما ليست موضوعاً جديراً بالدرس الأكاديمي أو أن السينما لا تدرس كفن وممارسة للسرد. ويضيف الخشاب، قبل أن أنجز رسالتي للدكتوراة عن "الميلودراما في مصر" بجامعة مونتريال تحت إشراف الدكتورة سيلفسترا مارينيللو، كنت قد سجلت موضوعاً للدكتوراة بجامعة القاهرة، بإشراف الدكتورة أمينة رشيد. وكان مشروعي آنذاك هو المقارنة بين الروايات الفرنسية والأفلام الميلودرامية في السينما المصرية. وقد بلغني أن الدكتور الدسوقي شتا -رحمه الله- وهو أستاذ الأدب الفارسي ومترجم الخوميني إلى العربية، قد اعترض في مجلس كلية الآداب على تسجيلي لموضوع عن السينما، قائلاً: "دكتوراة في السينما؟ شوية شوية يعملوا دكتوراة عن فيفي عبده". وكأن السينما مرادف للابتذال، ناهيك عن اعتبار الرقص الشرقي فناً لا يرقى لمرتبة موضوعات البحث العلمي. وكأنه يجهل أن السينما والرقص الشرقي مجالان معتبران للبحث الأكاديمي، كُتِبَت فيهما عشرات الآلاف من الدراسات في معظم أنحاء العالم. ويضيف الكاتب والناقد دكتور وليد الخشاب، بعد مرور ما يقرب من ربع القرن على ذلك الموقف، تغيرت الأمور كثيراً واحتضنت جامعة القاهرة مؤتمر السينما والأدب الذي نظمه سلمى مبارك ووليد الخشاب. اليوم،بفضل جهود سلمى مبارك وزملاء من أقسام مختلفة، تشهد جامعة القاهرة اهتماما بالدراسات السينمائية يتمثل في وجود عدد من الباحثين الذين يعملون على دراسة السينما كموضوع للبحث أو كجزء من مقاربة بينية للآداب في علاقتها بالسينما، مثلما في موضوعات: فلسفة السينما، تصوير التاريخ في السينما، واقتباس الأدب على الشاشة. وشبكة آمون لدراسة الكلمة والصورة التي تديرها سلمى تقدم- من خلال إنتاج أعضائها منفردين أو في إطار الشبكة المؤسسي- جهداً بحثياً متواصلا منذ عدة سنوات، يمنح جامعة القاهرة سمعة دولية في المجال. ويستطرد دكتور وليد في الحديث بالقول. آن الأوان أن تنشئ جامعة مصرية قسماً للدراسات السينمائية، أو على الأقل دبلوما لهذه الدراسات. وأعلم أن سلمى تتبنى هذا الجهد في جامعة القاهرة، التي تفاجئنا بأنها تفتقر إلى مثل تلك البنية المؤسسية الموجودة بالفعل في لبنان وكافة بلاد المغرب العربي، ناهيك عن وجودها في كافة الجامعات الكبرى في جميع قارات المعمورة.في تعاملنا مع الغرب، يعيبنا أننا نستورد أحيانا القشور، مثل الإصرار على أن يكتب الأساتذة تقارير جودة عن دروسهم الجامعية، بينما لا نستورد فكرة دراسة السينما كفرع من الآداب، مع أننا في مصر أصحاب أقدم وأكبر صناعة سينما في العالم العربي.
_ عن موقفك من قصيدة النثر وأنت المتحلي بمفاهيم وجودية وذاتية طرحت في قصيدتك الشعرية وآخرهم كان ديوان "كشك اعتماد"، حدثنا عن موقع قصيدة النثر المصرية /العربية في ميزان النقد التنظيرى، ومن هي أقرب الأسماء أو الأعمال التي تؤكد خصوصية قصيدة النثر العربية/ المصرية ؟
حاربت عمري كله لنحتفظ باسم "الشعر الحر" علامة على الشعر الذي لا يلتزم التفعيلة، أياً كان مضمونه، ولنعي الفارق بين "قصيدة النثر" كما ظهرت في الغرب وبين ما نسميه في العالم العربي ب"قصيدة النثر".
يطيب لي أن أذكر أن آباء قصيدة النثر العربية -أو على الأقل قصيدة النثر المصرية- بين الشعراء الفرنسيين ليسوا بودلير ورامبو وشار، بل بريفير،ثم فيرلين بقدر ما، بل وإليوار. ولا أعني هنا تأثيراً وتأثراً، فلا شك عندي أن بريفير ليس مقروءاً بالقدر الذي يستحقه في مصر، وأستغرب لو أن أحداً ما يزال يقرأ الشاعر العبقري إليوار. لكن أعني وجود أسلاف سبقت جمالياتهم ملامح ظهرت بعد عقود عند سعدي يوسف ومحمد الماغوط وسركون بولس، قبل أن تظهر في مصر التسعينات.
شاءت المصادفة التاريخية أن شاعرا ومثقفا بحجم وتأثير رفعت سلام كان يهتم ببلاغة الرمزية عند بودلير ورامبو وأن كثيرا من شباب الشعراء في التسعينات، مثلا من مجموعة الجراد، كانوا يحتفون بهامشية وصعلكة وتمرد الشاعرين الفرنسيين. فالتقي هذان الرافدان في التوسل بعبارة"قصيدة النثر" للتعبير عن القصيدة التي كان يكتبها هؤلاء التسعينيون. صحيح أن بودلير ورامبو كتبا قصيدة سمياها قصيدة نثر، لكنها كانت قصيدة رمزية ملغزة، مغرقة في المجاز، وكانت تتميز على مستوى الشكل بأنها مصفوفة طباعيا مثل النثر في شكل فقرات، وتعتمد بنيوياً على جمل طويلة مثل المعتاد في النثر. لهذا، فعندما كتب رفعت سلام قصائد مصفوفة كالنثر، محملة بالمجاز المركب والمعقد على منوال بعض قصائد رامبو، هو يعتبر كاتب قصيدة نثر. لكن لا توجد علاقة أسلوبية بين قصيدة النثر عند بودلير ورامبو وبين قصيدة النثر العربية المعناة بالتفاصيل وتجنب المجاز واستخدام جمل تقريرية موجزة، وصفاً طباعياً للقصائد على هيئة أسطر قصيرة. العلاقة تكمن في الإعجاب بصعلكة الشاعرين الفرنسيين وتمردهما على الأخلاقيات البورجوازية. ولهذا أحاول دائما أن أستخدم عبارات "قصيدة واقعية التفاصيل"، "قصيدة تيار الوعي بالأشياء"، "قصيدة واقعية التفاصيل"، أو ببساطة "الشعر الحر" في الإشارة للقصيدة ذات المعجم البسيط والاهتمام بالتفاصيل واليومي التي تتسيد الساحة الأدبية في مصر الآن، والتي ولدت في مصر مع جيل التسعينات. ولعل عنوان ديوان إبراهيم داود الأول "تفاصيل" (1989) قد لخص روح تلك القصيدة.ويضيف وليد الخشاب، لا يتسع المجال لذكر اسم واحد كعلامة على قصيدة التفاصيل أو قصيدة النثر في مصر، وخصوصاً أن مفهوم النثر بوصفه "قتلاً رمزياً" للقصيد الخليلي، يفترض أيضاً قتلاً رمزياً لفكرة أمير الشعراء. ولا يتسع المجال لأن أذكر كل من أحب من شعراء قصيدة التفاصيل المصريين من جيلي أو من أجيال أكبر أو أصغر، وخصوصاً أني قد كتبت عن شعراء وشاعرات أحب أعمالهم، لكن لم تتح لي الفرصة أن أكتب عن آخرين أحب أعمالهم أيضاً. أود أن أنتهز الفرصة لأذكر نفسي وأذكر قراءك بأن نجيب سرور هو واحد من الآباء المنسيين لقصيدة التفاصيل أو ما يصطلح الجميع على تسميته بقصيدة النثر. صحيح أنه كان يكتب التفعيلة، لكن معجمه البسيط القريب من العامية وسجاليته ونزعته التهكمية التفصيلية وعدميته، كل هذه الملامح تجعله سابقاً صاحب فضل السبق بجماليات شعره "النثرية".
_ كيف يرى دكتور وليد الخشاب حصاد تلك التجربة المعرفية والثقافية عبر رحلته مع أفكار التنوير والفن ومتون جماليات تلقى النصوص.؟
مثلما أكتب دراسات أكاديمية في مجالات تبدو متباينة، بل ومتنافرة، يستهويني أن أكتب الشعر في قوالب مختلفة من التفعيلة وشبه التفعيلة إلى القصيدة الحرة أو قصيدة التفاصيل، والتي اصطلح على تسميتها بقصيدة النثر. كتبت عن الفيديو كليب والوشم والتصوير الضوئي والشعر والرواية والسينما والقصص القرآني في دراساتي الأكاديمية. وفي دواويني كتبت عن "الخيل والليل" وعن الأطلال وعشق ليلى، كما كتبت عن نتيجة الحائط، والسشوار والمبولة وحبل الغسيل. داعبت واستدعيت المتنبي وشوقي وصلاح جاهين. كتبت بالفصحى وبالعامية، وإن لم أنشر محاولاتي في الكتابة بالعامية التي تعود إلى الثمانينات ومطلع التسعينات. ولم أنشر ديواني الأول إلا عام 2001 لأنني أميل إلى مراجعة القصائد مراراً وتكراراً والتأكد من أنها تصمد لاختبار الزمن، بالتعبير الفرنسي.عندي ديوان يرقد في ملف على الكمبيوتر منذ ست سنوات، لأنني أصفي فيه منذ بدأت ذلك المشروع. وعندي ديوان آخر لم يكتمل، هو الجزء الثاني من سيرتي الذاتية بالشعر التي بدأتها في "كشك اعتماد". ويستطرد الشاعر وليد الخشاب في القول مضيفاً، قلت في أحد حواراتي ما معناه إني أتمنى كتابة البحث الأكاديمي بمنطق الشعر، وكتابة الشعر دون حرمانه من عمق الثقافة الأكاديمية. أحاول أن أكتب دراساتي بمنطلق إبداعي يبتكر ويستكشف، ويتجاوز الحدود والمواضعات المستقرة، مثلما يليق بالشعر وبالبحث الأصيل معاً. ولذلك أقارن في أبحاثي بين ممارسات تبدو متنافرة، مثلما درست أغنية جاز ونصاً لابن عربي وفيلما تجريبياً لشرين نشاط في معرض تحليلي لمفهوم الفناء الصوفي في الفن.
ولذلك كثيراً ما تكون أطروحاتي صادمة، لأنها لا تسعى لإعادة إنتاج المألوف.
وأرجو ألا يكون تأثير ثقافتي الأكاديمية على قصائدي إثقالاً وابتذالا لها، كتبت قصائد كثيرة عن التاريخ وعن كليشيهات خطابات المثقفين وعن أطروحات الماركسية. وقد تبدو تلك الموضوعات عناوين أبحاث لا تيمات قصائد، لكن الشعر أثبت أن مادته هي الحياة سواء بعادتها اليومية أو بفلسفتها في التاريخ والسياسة. كل شيء وأي شيء يصلح لأن نكتب عنه قصيدة. المهم أن تكتب القصيدة كما يكتب الشعر، لا كما يكتب المقال أو الخطاب. فأرجو أن أواصل كتابة التاريخ بالشعر، وكتابة اليومي كقصيدة، وأن أجد دائماً من يجد متعة ما في قراءة ما أكتبه. للذهن عمرٌ مثل الموتور، لكن صعب أن نعمل "عمرة" للذهن كما نعملها للموتور، فأتمنى أن يستمر محرك الشعر عندي في العمل لعشر سنوات قادمة، قبل أن ينتهي عمره.
لمطالعة الجزء الأول من الحوار اضغط هنا..