تحية لإعلامى واعٍ
أريد أن أخصص هذا المقال لتحية الإعلامى «شريف مدكور»، التحية واجبة فى كل وقت لكنى أخص بالتحية موقفًا بعينه أعلن عنه بنفسه عبر صفحته الشخصية، قال شريف إنه أقام احتفالًا خاصًا بعيد ميلاده فى منزله، وطلب من أصدقائه ألا يحضروا له هدية شخصية من التى يتبادلها الأصدقاء فى عيد الميلاد.. بدلًا من ذلك اقترح شريف على أصدقائه أن يتبرعوا بثمن الهدية لمستشفى خيرى يحمل اسم «أهل مصر» ويختص بعلاج ضحايا حوادث الحريق الحرجة.. وبالفعل حضر مندوب من المستشفى الحفل ووقف على باب منزل الإعلامى يتقاضى الأموال التى كانت مخصصة للهدايا ويحرر بها إيصالات للمتبرعين.. إن قيمة هذا التصرف هى قيمة «رمزية» فى الأساس.. بمعنى أن تفكير هذا الإعلامى فى غيره ورغبته فى مساعدتهم هو ما يستحق التحية وليس المبلغ الذى تم جمعه سواء كان كبيرًا أو صغيرًا.. إن ما فعله هذا الإعلامى الذى ينتمى بصلة قرابة للفريق محمد فوزى وزير حربية مصر وأحد من ساهموا فى بناء هذا البلد بعد النكسة.. ما فعله هذا الإعلامى يصلح قدوة لكثير من إعلاميينا ونخبتنا فى السنين الأخيرة من الذين رفعوا راية المصلحة الشخصية فوق كل شىء.. واعتبروا أن قيمة الشخص العام تكمن فى الملايين التى يجمعها والقصور التى يسكن فيها، ولم نسمع عن فعل خير يقوم به أى منهم، أو عن تبرع لأهله الذين خرج من بينهم فقيرًا أو للمجتمع الذى أطعمه بعد جوع وكساه بعد عرى وجعله شهيرًا بعد أن كان نكرة لا يعرفه أحد.. والحقيقة أن سلوك الزميل شريف مدكور يعود بنا إلى سلوك الطبقة الأرستقراطية قبل ثورة يوليو والتى طحنتها مطحنة الدعاية السياسية فركزت على عيوبها «وهى كثيرة» وتجاهلت حسناتها «وهى كثيرة أيضًا».. لقد كان من حسنات هذه الطبقة أنها تعتبر العمل الخيرى واجبًا على الأثرياء تجاه مجتمعهم.. وتعتبر الإنفاق على المشاريع الخيرية فرض عين على كل ثرى يجب أداؤه دائمًا.. وقد كنت أقرأ بالأمس عن أبوالطب المصرى على باشا إبراهيم «١٨٨٠-١٩٤٧» فوجدت أنه ابن فلاحة بسيطة من الدلتا نزحت إلى مصر لتعمل فى مهنة بسيطة فتبنته أسرة ثرية هى أسرة «السمالوطى» وتكفلت بتعليمه حتى أصبح نابغة الطب فى مصر وعميد طب قصر العينى وأسس نقابة الأطباء وأصبح وزيرًا للصحة وكان طبيبًا بارعًا فى مجاله لا ينافسه أحد.. وأظن أنه كان هناك آلاف الحالات مثل حالة «على باشا إبراهيم».. فضلًا عن نماذج أخرى يحفظها التاريخ مثل الأميرة «فاطمة إسماعيل» التى تبرعت بمئات الأفدنة التى تملكها لتصبح مقرًا لجامعة القاهرة ثم تبرعت بحليها الثمينة لتباع وتبنى بثمنها مبانى الجامعة التى ما زال الآلاف يتلقون فيها نور العلم عامًا بعد عام.. كان هناك مئات الحالات مثل «فاطمة إسماعيل» يمولون كيانات مثل «الجمعية الخيرية الإسلامية» و«المواساة» و«مبرة محمد على» وغيرها الكثير والكثير.. قامت ثورة يوليو وتقدمت الدولة لتلعب دور الأغنياء فى الرعاية الصحية والاجتماعية، ثم تغيرت قواعد النظام السياسى والاقتصادى وظهر آلاف الأغنياء وبثروات أكبر بكثير مما كان عليه الوضع قبل يوليو.. لكن تقاليد العطاء والبذل لم تعد مرة أخرى كما كانت.. هناك حالات للتبرع طبعًا وجمعيات للعمل الخيرى، لكن بعضهم لسبب ما يقول إنه يتبرع فى السر.. لا أزايد على أحد بالطبع ولكن تعجبنى فكرة التبرع فى العلن.. إنها بمثابة تسويق لفكرة العطاء وترغيب للآخرين فيها.. إن الشخص المشهور هنا يصبح قدوة لغيره وملهمًا لهم فى فعل الخير.. ربما يقلده أحدهم حرفيًا وهذا شىء جميل.. وربما يُدخل أحدهم تطويرًا على الفكرة.. فيتبرع بنفقات فرحه مثلًا مع عروسه لعمل خيرى.. أو يطلب من أحبائه أن يوجهوا قيمة هدايا الزواج لعمل خيرى «نتحدث عمّن لا يحتاج للهدايا بشكل عملى وليس عن المحتاج».. إن الشخص المشهور هنا قام بإعلان مجانى عن فكرة العطاء والتبرع ولم يكتفِ بأن يتبرع فقط سواء فى السر أو فى العلن وهذا هو ما يستحق التحية.. أظن أننا جميعًا نحتاج لاستعادة قيمة العطاء وتقاليده أيضًا التى كانت موجودة فى هذا المجتمع من قبل وكانت لها آثار إيجابية أثبتها الزمن وبتنا جميعًا نعترف بها بعد مرور السنوات.. وما يضاعف من حاجتنا لإفشاء هذه القيمة والتركيز عليها هو تلك الظروف التى يمر بها العالم وتنعكس علينا كما تنعكس على غيرنا ولا نستطيع مواجهتها سوى بمزيد من العمل وباللجوء إلى المزايا النسبية للمجتمع المصرى، والتى يقف على رأسها التراحم والمودة وقيم التكافل الاجتماعى ذات الجذور العريقة بين المصريين، والتى جعل الزمن البعض ينساها وآن الأوان أن نستعيدها مرة أخرى.