«الثروة الإبداعية للأمم».. مناسبة لتحية مثقف نبيل
مؤخرًا صدر كتاب «الثروة الإبداعية للأمم» بترجمة الدكتور شاكر عبدالحميد الناقد المصرى الراحل ووزير الثقافة الأسبق.. الكتاب من تأليف «باتريك كابندا» وهو موسيقى أوغندى عالمى ومستشار للبنك الدولى للتنمية.. وقد صدر الكتاب ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الشهيرة عن المجلس الوطنى للفنون فى الكويت.
صدور الكتاب يصلح مناسبة غير أخيرة لتحية د. شاكر عبدالحميد «١٩٥٢- ٢٠٢١» الذى رحل عن عالمنا بعد إصابته بمرض كورونا.. وكانت المفارقة أن آخر إبداعاته كانت دراسة شيقة بعنوان «ما بعد الكورونوليا» يعارض فيها المصطلح الشهير «ما بعد الكولونية»، ويتحدث فيها عن العالم فى مرحلة ما بعد كورونا بخفة ظل وعمق تميز بهما دائمًا.. وكانت المفارقة أن الرجل الذى لم يتوقف يومًا عن مخالطة الناس كان قد فرض على نفسه عزلة تامة مع تفشى فيرس كورونا وامتنع عن الخروج من المنزل والاتصال المباشر بالناس، ومع ذلك شاءت إرادة الله أن يصاب بالفيروس الغامض وأن يلقى ربه بعد أسبوع من الإصابة بالمرض فى ٢٠٢١.. لا أبالغ إذا قلت إن ترجمة د. شاكر عبدالحميد للكتاب ووعيه بموضوعه أضافت له قيمة كبيرة جدًا كان سيخسرها لو كان المترجم شخصًا آخر غير شاكر عبدالحميد المثقف الموسوعى والناقد الكبير والمترجم الذى يترجم بهدف الإضافة للثقافة العربية وليس لمجرد الترجمة.. يناقش كتاب «الثروة الإبداعية للأمم» معنى مهمًا سبق تداوله فى مصر والحديث عنه، ولكننا فى حاجة لأن يتحول إلى استراتيجية عامة وتفصيلية وخطوات ملموسة على الأرض وهو يقول ببساطة إن ثقافة أى أمة يمكن أن تتحول لمصدر دخل لها.. وإننا لا نمارس الغناء أو الرسم أو الكتابة لنشعر بآدميتنا فقط.. أو لنخفف عن أنفسنا ضغوظ الحياة فقط، ولكن إلى جانب هذا فإن الثقافات المحلية لدينا مثلًا يمكن أن تتحول لمصدر دخل بالعملة الصعبة إذا تم تحويلها لمنتج يتم تصديره للعالم.. يضرب المؤلف مثلًا بفرقة نسائية للطبول تم تشكيلها فى رواندا من نساء عاملات وفقيرات وكيف أنها لاقت شهرة على مستوى العالم وترحيبًا «ثقافيًا- حقوقيًا» كون الرجال هم الذين كانوا يحتكرون هذا النوع فى رواندا.. بعيدًا عن هذا المثل سأضرب مثلًا من واقعنا.. يمكن لفرقة تغنى الأغانى البدوية مثلًا فى مطروح أو سيناء أن تتحول موسيقاها لمنتج عالمى وأن توزع ملايين الأسطوانات فى العالم، لأن ما تقدمه يتميز بـ«الجِدّة» و«التفرد» و«الاختلاف عن الموسيقى السائدة».. يشبه الأمر إقبال المواطن الغربى على أكلة جديدة من الشرق، لأنه ملّ من الطعام السريع على طريقة «ماك برجر».. نفس الأمر ينطبق على فرقة من واحة سيوة مثلًا أو فرقة من أهالى المطرية - دقهلية تقدم أغانى الصيادين.. أو مغنٍ شعبى مبهج مثل الريس متقال كانت تقام له الحفلات فى الغرب فعلًا.. أما إذا أردنا أمثلة أعظم فلدينا مثلًا قصة مطرب نوبى شاب فى السبعينيات اسمه محمد منير.. وجد المناخ الثقافى والفنى المناسب لتنمو موهبته.. بغض النظر عن نجاحه الأسطورى فى مصر ستجده يقول إن جمهوره فى ألمانيا كبير جدًا مثل جمهوره فى مصر.. هذا الجمهور يدفع باليورو ليحضر حفلات محمد منير ويسمع أغنياته.. هذه عملة صعبة تدخل مصر.. إلى جانب عظمة منير فالجمهور يقبل عليه بسبب الروح الخاصة لأغانيه والمستمدة من موسيقى جنوب مصر. الفكرة أن نخلق عشرات من حالات النجاح بحسب قدرة كل حالة على النجاح وأن نحول هذا إلى حالة إبداعية.
هذه الفكرة متسقة مع مرحلة «ما بعد الحداثة»، وهى تعنى ببساطة هرب الإنسان من الآلة والحضارة الحديثة وعودته للمنتجات الأصلية والتراثية لأسباب بيئية وحضارية ولأسباب تتعلق بالندرة.. الرئيس السيسى عندما يزور معرض «ديارنا» أكثر من مرة.. ويعلن عن أنه سيشترى المفارش القطنية المصنوعة فى أخميم.. يعى هذا المعنى.. ويعلن عن هذه المنتجات كمساعدة لصناعها من البسطاء.. ويقول إنه سيشترى إنتاجهم على نفقته ليهديه لضيوف مصر. يمكن إذا تم تنظيم هذه الصناعة الخاصة جدًا والتاريخية جدًا أن تتحول إلى مصدر للعملة الصعبة.. لأنها «فريدة» و«نادرة» و«خاصة» ولا تشبه غيرها من المنتجات العالمية.. هل تريد مثلًا أعظم وأعظم.. فلاحة مصرية صغيرة اسمها أم كلثوم.. وجدت بيئة مناسبة وعظماء تبنوا موهبتها.. مع الزمن تحولت إلى أعظم مورد للعملة الصعبة لمصر بعد الهزيمة.. جابت العالم فى خمس سنوات وقدمت خمسة ملايين جنيه عملة صعبة «تساوى خمسة مليارات أو أكثر بأسعار هذه الأيام» وفتحت بيوت المئات والمئات من العازفين والملحنين والمؤلفين وباعة الأسطوانات وعمال المسارح.. أنا هنا أحدثك فقط عن الجانب الاقتصادى الذى يقصده المؤلف فى كتابه وليس عن الجانب الوجدانى الذى دخلت به أم كلثوم تاريخ مصر من أوسع أبوابه. قِس على ذلك عشرات المجالات.. صناعة مستنسخات الآثار والهدايا التذكارية على مستوى عالٍ من الجودة بخبرة أجنبية داخل مصر وتصديرها للعالم كله.. تسويق المتاحف المصرية «ليس الفرعونية فقط» فى الداخل قبل الخارج بدلًا من كونها خاوية على عروشها تنعى من بناها وأقصد هنا «المتحف الإسلامى والقبطى والزراعى والفن الحديث ومحمود خليل والسكة الحديد ومختار.. إلخ إلخ).. هذه كلها أفكار موجودة فى الواقع المصرى وللأسف كان بعضها يلقى مقاومة عند طرحه باعتبار أن الثقافة ليست سلعة.. وكانت النتيجة أننا لم نستطع أن ننشرها كرسالة ولم نستطع أن نسوقها كسلعة! وأخذنا نتفرج على المتطرفين وهم يسرقون وعى الناس.. كتاب «الثروة الإبداعية للأمم» كتاب مهم لأنه يكشف عن نظرة العالم الغربى حاليًا للثقافة ولأنه يطرح فكرة لا تلائم أحدا فى العالم بقدر ما تناسب ذات الميراث الحضارى، والتى تملك تنوعًا فى ثقافاتها المحلية «فلاحين وصعايدة وبدو ونوبة وواحات وصيادين.. إلخ» وهى مواصفات لا تنطبق على بلد بقدر ما تنطبق على مصر.. تحية لروح د. شاكر عبدالحميد.. مترجم الكتاب.. ووزير ثقافة مصر الأسبق والمثقف العضوى المحب لبلده وناسه.. ألف رحمة ونور على روحه، ودعوة لوزيرة الثقافة د. نيفين الكيلانى لإعلان استراتيجية سريعة للاستفادة من الثروة الإبداعية لمصر.. وهى قضية أعرف أنها تشغل صانع القرار المصرى منذ فترة لكن من المهم جدًا أن نسابق الوقت.