زوبعة فى فنجان!
هل يملك أبناء المشاهير آباءهم؟؟ هذا سؤال مهم ويعيد طرح نفسه بين الحين والآخر.. فى التسعينيات كنت تسمع عن ابن متطرف يريد منع مسلسل عن والده الموسيقار لأن حياته لا تعجبه ولا يريد للناس أن يعرفوها!! أو تسمع عن أبناء مبدع معين يريدون عدم نشر إنتاجه لأنه صار مخالفًا لأفكارهم التى اعتنقوها فى زمن خيبة المجتمع.. هذه الفكرة طرحت نفسها بشدة مؤخرًا عقب تداول تصريح لإحدى حفيدات عميد الأدب العربى طه حسين «١٨٨٩-١٩٧٣» تقول فيها إنها تفكر فى نقل رفات طه حسين إلى فرنسا!! ثم تصريح آخر تكذّب فيه التصريح الأول وتقول فيه إن أسرة طه حسين تراجعت عن فكرة نقل رفاته إلى فرنسا!!! وبين التصريحين كانت همهمات تتهم صحفيًا قديرًا بالتسرع فى نقل التصريح من ابنة حفيدة طه حسين، وكان أن سارعت مواقع بالنقل عن صفحة الزميل الصحفى دون تثبت أو حديث مع المصدر الأصلى.. وحين تتأمل الموضوع كله تجد أنه ليس فيه «بشلن» مهنية أو موضوعية.. فوسيلة النشر ليست موقعًا أو جريدة ولكن حساب شخصى على «فيسبوك»، والزميل لم يتحدث لكل أفراد أسرة طه حسين ولا انتظر صدور بيان رسمى عن الأسرة ولكنه نشر تصريحًا سريعًا لأصغر أبناء الأسرة سنًا أرسلته له غالبًا فى صورة رسالة «واتس آب» أو «ماسنجر»، والحفيدة أو ابنة الحفيدة، إن شئنا الدقة، لم تتصل بأقاربها قبل أن تطلق هذا التصريح الغريب ولكنها أطلقت التصريح ثم عادت لتقول إنها تشاورت معهم وإنهم رفضوا!! والحقيقة أنه ليس لدىّ أدنى رغبة فى الإساءة لأى طرف من أطراف القصة حبًا وكرامة لذكرى عميد الأدب العربى، ولكننى لا أستطيع أيضًا أن أغفل بعض العبارات المتعالية فى بيان الحفيدة المجهولة لطه حسين- على اعتبار أننا لم نكن نعرفها- فهى تقول: «قال خالى- نجل أمينة طه حسين- إن العميد كرّس حياته لتطوير مصر ولمناصرة حقوق الفقراء»! والحقيقة أن طه حسين نفسه كان من الفقراء! وهو من نبت هذا البلد الطيب تعلم فى أزهره وجامعته وسافر على نفقة حكومته ورعاه شعبه الطيب وساند نبوغه وتفوقه.. هو ابن مصر النابغ.. يدين لها كما تدين له، صنعته مصر ورد لها الجميل على أحسن ما يكون الرد.. وهو تاريخ ربما لا تعرفه الحفيدة الصغيرة بحكم معيشتها خارج مصر أو أعجمية لسانها وعدم تمكنها من القراءة بالعربية.. وأقول بمنتهى الحب إنه لا الحفيدة ولا الخال ولا أى أحد من أسرة طه حسين يملك فى طه حسين أكثر مما يملك أى مصرى محب له على المستوى العام.. أما حقوق الورثة القانونية فى تركة والدهم فهذا أمر آخر لا ينازعهم فيه أحد.. إن ما أطرحه قضية عامة هدفى منها أن نهدف كمثقفين وإعلاميين للإصلاح لا للإثارة ولإطفاء الحرائق لا لإشعالها والمهنية لا الاعتماد على منشورات «الفيسبوك».. إن الأمر كله بدا مثل زوبعة فى فنجان بدأت صباحًا وانتهت مساء دون إتاحة الأمر للتفاعل فى مساراته الطبيعية والمنطقية.. وربما اكتشف الجميع أن الأمر لم يكن يستدعى كل هذا التسخين.. وربما كان من الأفضل أن تخاطب أسرة طه حسين الحكومة المصرية بشكل رسمى ومباشر لتقف على التفاصيل والصورة النهائية.. فقد صرّحت نائبة محافظ القاهرة بأنه لا نية لنقل مقبرة طه حسين من مكانها.. وتفسيرى الخاص أن الموظف المسئول ربما قد ظن أن مقبرة طه حسين كغيرها أو ربما لم ينتبه لاسم صاحب المقبرة من الأساس وأن الرجوع لمستوى أعلى لا بد أن يستغرق بعض الوقت.. لكن أحدًا لم يصبر.. وانطلق الجميع فى موجة المزايدات.
إن لكل أسرة تفاصيلها الخاصة، وآخر ما أريده أن أهاجم أحدًا من أسرة طه حسين، لكننى أقول إن ظروفًا خاصة أدت لأن يهاجر نجله الأكبر إلى فرنسا منذ الستينيات وفى حياة والده العظيم وأن تنقطع علاقته بمصر بشكل كامل رغم أنه ابن عميد الأدب العربى.. وقد ذكر صديقه الناقد أحمد صادق الحمودى فى مقال عنه أن العميد كان يغضب منه لأنه لم يستطع أن يتمكن من العربية بقدر تمكنه من الفرنسية.. وأنه جاء له بمعلم للغة العربية ولكن الأوان كان قد فات.. ولا يعنى هذا أنه مخطئ.. فهو أستاذ كبير للأدب الفرنسى لكنه لم يملك مواهب والده الفذة التى يصعب أن تتكرر وكان أكثر تأثرًا بثقافة والدته وهى سيدة عظيمة أيضًا.. تروى أمينة طه حسين أنها كانت أقرب لوالدها بينما كان شقيقها مؤنس أقرب لوالدته.. وقد اختار الهجرة لفرنسا بينما اختارت هى البقاء فى مصر وإن سافر بعض أبنائها.. كل هذا لا يسىء لأسرة طه حسين على الإطلاق ولكنه يوضح الظروف التى صدر فيها التصريح والدوافع التى دفعت إليه.. لقد قمت بواجبى الصحفى فى البحث عن أحفاد طه حسين، فلفت نظرى حوار أجرته حفيدته أمينة مؤنس «أوكادا» فى «الإندبندنت» العربية فى أكتوبر ٢٠١٩، وقد فهمت أن «أوكادا» هو اسم زوجها اليابانى لذلك تحمل اسمه، وأنها تخصصت فى ثقافة الهند والشرق الأدنى، وأنها- وهذا لا يعيبها- لا تتحدث العربية بطلاقة وأن علاقتها بمصر ضعيفة جدًا.. بعد أن عاشت كمواطنة فرنسية منذ سن الخامسة وليس فى هذا كله ما يعيبها ولا يعيب أبناءها، سوى أنه ليس اختيار طه حسين الذى اختار أن يعيش فى مصر ويحارب معاركها ويطور ثقافتها ويعلم أبناءها ويكتب فى صحافتها ويقدم الأجيال الجديدة من كتابها ويبر أهله فيها من الفلاحين والصعايدة حتى آخر لحظة فى حياته.
إننى أتحدث عن قضية عامة لا عن أسرة الراحل العظيم طه حسين فقط.. لقد توقفت أمام خبر يقول إن ابنة الأديب الكبير نجيب محفوظ قررت أن تؤلف كتابًا وأن تضمنه مذكرات بخط يد نجيب محفوظ عثرت عليها!!! هكذا.. بدلًا من أن يصبح نجيب محفوظ هو البطل أصبح بطلًا مساعدًا!! وبدلًا من أن نقيم الدنيا ولا نقعدها لأننا عثرنا على مذكرات بخط يده.. عرفنا أنها ستتحول إلى فصل فى كتاب ستؤلفه ابنته كأول كتاب لها فى حياتها!! ومع كامل الاحترام لها فإن هذا نوع من العبث.. وهذه المذكرات فى حالة وجودها يجب أن تحققها لجنة على أعلى مستوى من نقاد الأدب الحديث وتنشر على أروع ما يكون النشر.. أما الحقوق المادية للنشر فهى من حق ابنة نجيب محفوظ شرعًا وقانونًا لا يجادلها أحد فيها.. إننى ما زلت أذكر قول الأستاذ محمد حسنين هيكل إن أى رئيس أو مشهور يكون مسئولًا عن سلوك أبنائه طالما هو على قيد الحياة يستطيع أن يراجع تصرفاتهم ويضبطها ويسيطر عليها.. أما بعد رحيله فهو غير مسئول عن سلوك أبنائه أو أحفاده سواء أساءوا أو أحسنوا وهم لا ينتسبون له سوى بالاسم.. الاسم فقط.