القوافل الثقافية
الواقع الثقافى فى مصر فى حاجة ماسّة لفكرة «القوافل الثقافية».. قافلة الخدمات تظهر بشكل عام لسد نقص فى الخدمة الثابتة فى مكان ما.. مصر تعرف فكرة القوافل الصحية بكثافة منذ سنوات، الفكرة منها سد النقص فى الخبرات الصحية الكبيرة فى الريف المصرى، خبرات من القاهرة تنتقل بشكل مؤقت لتجوب قرى فى محافظات مختلفة وتقدم الخدمة الطبية لفترة مؤقتة لمن يحتاجها ثم تعود أدراجها للقاهرة أو تنتقل لمحافظة أخرى.. فكرة أشبه بدور قوات الصاعقة التى تضطر أحيانًا لسد النقص فى عدد الجيوش النظامية أو لعب دور لا تستطيع القوات العادية أن تلعبه.. يتم تعويض العدد الكبير والاستدامة بنخبة قليلة مدربة جيدًا جدًا وشجاعة لتقوم بنفس المهام القتالية.. نحن نريد أن نطبق هذه الفكرة فى مجال الثقافة.. المجال الثقافى لدينا يعانى من مركزية شديدة جدًا، كل الأنشطة الثقافية مركزها فى القاهرة وربما فى منطقة وسط البلد تحديدًا.. الأدباء الذين كانوا يرغبون فى النشر كانوا يتركون قراهم ويأتون إلى القاهرة ليبدأوا الكفاح من أجل النشر والوظائف والتواجد.. الذين بقوا فى محافظاتهم أصبح يطلق عليهم «أدباء الأقاليم» ومعظمهم لم يؤثروا فى مجتمعاتهم.. كانت تتم ترضيتهم بوظائف فى الثقافة الجماهيرية ونشر بعض أعمالهم بغض النظر عن قيمتها الفنية، وكفى الله المؤمنين القتال.. هذه المركزية نتج عنها أن القرية المصرية انكشفت أمام خطاب التطرف، سيطر المتطرفون على القرى المصرية من خلال العمل التنظيمى والعمل الخيرى والعمل الدعوى.. أى شاب كان يرغب أن يخرج من عالمه الضيق لم يكن يجد سوى المتطرفين ليقدموا له رؤيتهم للعالم.. غابت قصور الثقافة عن ممارسة دورها بفعل فاعل، التهمت أجور الموظفين «١٨ ألف موظف» ميزانية الهيئة كلها ولم يبق سوى الفتات للأنشطة الثقافية.. هذا القصور نتيجة عصور سابقة لكنه يستدعى مواجهته على طريقة الكوماندوز.. مطلوب قوافل تقاعدية تضم كبار الكتّاب والمبدعين والفنانين التشكيليين والمسرحيين تطوف محافظات مصر المختلفة.. من المهم جدًا أن يشعر سكان الأقاليم بالاهتمام.. وبأن العاصمة لا تستأثر وحدها بالمشاهير والناجحين.. من المهم جدًا أن يسمع الشباب فى هذه المحافظات خطابًا مختلفًا ينمى وعيهم.. خطابًا مختلفًا عن الخطاب الدينى أو عن اللغو المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعى.. مهم أن يسمعوا تجارب كبار الكتّاب فى الحياة وكيف تغلب بعضهم على ظروفه الصعبة وصنع نجاحه بنفسه.. لأن هذا يعطى الأمل والقدوة لآلاف الشباب.. من المهم أن يسمع الناس آراء مثقفينا فى تحديات مثل الزيادة السكانية وانتشار الأمية والعداء للمرأة والآخر المختلف.. هذه معارك لا بد أن يخوضها المثقفون المصريون لمصلحة البلد لا لمصلحة أى أحد آخر.. هناك اجتهادات قامت بها الثقافة الجماهيرية من خلال مسرح متنقل أهدته لها مشكورة وزارة الإنتاج الحربى.. هناك حفلات تم إحياؤها فى الصعيد بالفعل وعروض مسرحية فى بعض القرى.. هذا جميل جدًا ولكنه لا يكفى! القافلة الثقافية فكرة أشمل من هذا.. لا بد أن يكون فيها رموز يلقون المحاضرات وورش تدريب على الكتابة والرسم والتمثيل وعروض مسرحية وعروض سينمائية.. هذه الأنشطة بمثابة كشاف ضوء ينير الظلام ومغناطيس يلتقط الموهوبين من أهل القرى ويجعلهم يكتشفون عالمًا آخر.. كنت أقرأ فى كتاب عن الرائد الثقافى «زكريا الحجاوى» لتلميذه الكاتب الصحفى الكبير يوسف الشريف.. روى أنه فى الستينيات زارت قافلة ثقافية إحدى القرى برئاسة وزير الثقافة الكبير ثروت عكاشة، وأن المثقفين انخرطوا فى الحديث مع الفلاحين بلغة معقدة مما أصابهم بالنعاس والرغبة فى مغادرة السرادق.. يقول الشريف إن زكريا الحجاوى تقدم لينقذ الموقف ويُحدّث الفلاحين بلغتهم البسيطة ويشرح أهم القضايا المعقدة بلغة الأمثال الشعبية.. الحجاوى رائد كبير كتب عنه الصديق إبراهيم داود على صفحات «الدستور» ولكن الشىء بالشىء يذكر.. اكتشاف المواهب الفطرية الذى كان يقوم به الحجاوى عمل رسالى نذر له حياته، ولكن القوافل الثقافية فى القرى عمل أكثر جماعية وتنظيمًا ومؤسسية ويقود أيضًا إلى اكتشاف المواهب المنسية.. الحجاوى كان يصطحب المواهب الفطرية لتقدم فنها فى القاهرة.. وأنا أريد العكس.. أريد من الفنانين القاهريين أن يقدموا فنهم لأهل القرى وأن يروهم رأى العين ويلمسوهم ويشعروا بأنهم شركاؤهم فى الوطن وفى الحياة وفى النجاح أيضًا.. من الخطأ جدًا أن يتعامل نجومنا مع أنفسهم على أنهم «سلع تجارية» على من يُرِد أن يراها أن يدفع الثمن .. الناس هى التى تصنع النجم وعليه وقت الحاجة أن يرد لهم الجميل.. هذا هو درس أم كلثوم التى طافت العالم تغنى للمجهود الحربى فحفظها المصريون فى قلوبهم على مر الزمان.. مطلوب من وزيرة الثقافة د. نيفين الكيلانى استراتيجية جديدة للعدالة الثقافية.. ومطلوب من كبار المبدعين ألا يتأخروا عن رد جميل الناس عليهم وأن يمدوا أيديهم لغيرهم كما مد غيرهم يده لهم ذات يوم.. هذه هى حكمة الحياة لمن يريد أن يعى.