عبدالسلام ومديحة
فيه "الحياة"، اللي هي الوجود الإنساني في المجموع (وربما وجود كل الكائنات الحية)، وفيه الإنسان الفرد، اللي هو مثلا عبدالسلام أو مديحة، خلينا نشوف الموضوع بـ يمشي إزاي:
"الحياة" بـ تدفع عبدالسلام لـ فعل أشياء، زي إنه يشتغل، فـ السؤال هنا: هل الشغل دا يفيد الحياة ولا يفيد عبدالسلام؟ هل يصب في صالح الوجود كله مجموعا، ويؤدي لـ استمراره وتطوره، ولا في صالح عبدالسلام؟
الإجابة: ممكن يكون الاتنين (أو هكذا يفترض) أو على أقل تقدير تبادل منفعة، يقدم عبدالسلام لـ الوجود الإنساني ما يفيده، ويجعله يستمر ويتطور ويرتقي، ويحصل من هذا الوجود على المقابل المناسب، فـ هل دا بـ يحصل؟
الإجابة: لا، عبدالسلام أصلا لا يختار شغله وفقا لـ تقييمه هو، ولا حتى بـ مواءمة بين تقييمه وتقييم الحياة، الأمر يحدث بـ الكامل وفقا لـ تقييمات الحياة، فـ نلاقي عبدالسلام بـ يشتغل الشغلانة دي لـ إنها بـ تحقق مكسب مالي أكتر/ نفوذ أكبر، وجاهة أعظم/ راحة أفضل/ ... أو أصلا أصلا لـ إنها هي المتاحة قدامه (ودا اللي حاصل عند معظم الناس).
مش بس الشغلانة، لكن كمان سياقها وشروطها، خلينا نقول إنه مدرس، وبـ يجيد التدريس ويحبه، وما يستخسرش المجهود والوقت اللي بـ يبذلهم فيه، لكن هـ يدرّس إيه؟ لـ مين؟ إمتى؟ إزاي؟ كل دي أمور بره إيده. فـ المحصلة هـ تكون إنه "الحياة" بـ تحصل من عبدالسلام على ما تريده هي، وفقا لـ تقييمها هي، مقابل إيه؟
ما أقدرش أقول إنه عبدالسلام لا يحصل على مقابل خالص، لكن المقابل دا المفروض يعني يكفي عبدالسلام لـ يعيش ما تبقى من حياته (إن تبقى شيء يذكر) في تلبية اختياراته هو، واحتياجاته هو، مش كدا!
لكن دا كمان مش حاصل. الحياة حاطة إيديها على ما تبقى كمان، فـ هي تجبره مثلا على الزواج من مديحة (مع ملاحظة إنه مديحة كمان يسري عليها ما قلناه عن عبدالسلام) لـ إنه شكل الأسرة، وما يترتب عليها من تنظيم اجتماعي، هو المناسب لـ استمرار الحياة.
الأسرة مش في مصلحة عبدالسلام ولا مديحة (حتى العرب فهموا الفولة وسموها أسرة من الأسر) الأسرة دي مش بس هـ ينتج عنها أطفال، وعبدالسلام ومديحة هـ يشيلوا الطين في تحمل مسئوليتهم، لكن كمان هـ ينتج عنها تداخل حياتي عبدالسلام ومديحة، اللي كل واحد منهم عنده أب وأم وإخوات، وأعمام وعمات وأخوال وخالات، وأصدقاء وصديقات وزملاء وزميلات، فـ الطرف التاني هـ يبقى مضطر لـ التعامل مع عالم كامل، هو ما يخصوش من هذا العالم غير فرد واحد.
حتى لو عبدالسلام ما اتجوزش، أو مديحة ما عملتش أسرة، وقدروا يواجهوا "الحياة"، اللي بـ تضغط كتير على من لم يكونوا أسرة، فـ هم برضه مضطرين لـ التعاطي مع أشكال كتير من التنظيم الاجتماعي، مش بـ الضرورة يكونوا اختاروها، إنت مش بـ تخالط الناس وفقا لـ تقييماتك إنت، إنما فيه اعتبارات كتير تشبه الاعتبارات اللي قلناها في العمل، وربما كمان تتشابك مع العمل ذاته، ودا اللي بـ يقول عليه المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له، ما من صداقته بد
(بـ المناسبة بس قبل ما أسترسل: ما أقوله هنا ليس كلاما شخصيا، أو شكاية ما، أنا بـ أعتبر نفسي أكثر حظا من معظم الناس، إنما تقدر تقول فضفضة عن الفرق بين وجود الإنسان والوجود الإنساني).
المهم، الحياة دي محتلة عبدالسلام ومديحة بـ الكامل، وتحصل منهم على ما يمنحها الطاقة والزخم، والاستمرار والتطور والتحسن، من أصغر المهام وأقلها حتى الأمور الجليلة والشامخة عبر الزمن، زي تشييد الأبنية والمخترعات والأفكار والنظريات والحكمة والإبداع والفلسفة، ثم لا تمنحهم مقابلا مُرضيا أو حتى شبه مُرْضٍ.
طيب، ليه عبدالسلام ومديحة يرضوا بـ القسمة الضيزى دي وعقد الإذعان دا؟
بـ بساطة، لـ إنه الحياة بـ تخدعهم، وتصور لهم إنهم لازم يعملوا كيت وكيت، علشان "مصلحتهم" هم، وإن استمرار الحياة وتطورها هو استمرار ليهم هم وتطور وكدا، بينما دا مش حاصل، شوف أي حاجة بـ ترتكز عليها "الحياة"، هـ تلاقيها وصلت لما وصلت إليه بـ جهود ناس ماتوا وما استمروش، اللي استمرت هي الحياة.
حتى أثناء ما كانوا دول عايشين، هـ تلاقي معظم اللي عملوا المنجزات الخالدة عاشوا حيوات شخصية بائسة، أو على الأقل صعبة ومضغوطة.
الحياة بـ تقول لك: يا عبيط! ما هو كله عشانك في النهاية، فـ تبدأ إنت تتبنى قيمها هي، فـ تلاقي مثلا الناس بـ تتجوز، فـ تعمل احتفال ضخم وزفة وهيصة، ويقول لك: فرحة العمر!
مش عارف فرحة إيه وهم مقبلين على مفرمة؟ المفروض لما نيجي نتجوز، أهالينا وأصحابنا وذوينا يواسونا ويقولوا لنا: شدوا حيلكم! ربنا يصبركم على ما بلاكم! كدا يعني،
مثلا، ليه أم كلثوم كانت بـ تغني، وتتحمل الجهد والمشقة والتدريبات المملة، وتتحمل آلام الجسد الرهيبة نتيجة أمراضها، ويسندوها وهي معدية الستين سنة ثم السبعين، وتاخد حقن وبلاوي؟ عشان إيه يعني؟
المجد؟ الخلود؟ العظمة؟
ما طظ!
هي آخر عشرين سنة من حياتها (قول خماشر) كانت تقدر تعيش على مزاج مزاجها، لكن الحياة احتلت حتى هذا المزاج، ووجهته ناحية ما يفيد استمرارها وتطورها ("ها" تعود على الحياة) وخلت الست تتحمل وتتحمل وتتحمل، وتحصل على إيه؟ ما هي ماتت في الآخر!
اسمها فاضل؟ ما هو ضمن الخداع برضه، اسمها دا هـ يفيدها بـ إيه وهي ميتة؟ هي خلاص ما عادش يفيدها شيء (ولا يضرها)، يعني الحياة اشترت منها سنين بلوشي.
فـ يعني، الحياة بـ تضحك علينا، عشان نعمل اللي هي عايزاه، وإحنا مبسوطين بـ دا، لـ إنها لو ما استمرتش، ما كناش إحنا جينا من الأساس، بس هنا يفضل السؤال: هل كوننا جينا من الأساس، دي حاجة كويسة ولا وحشة؟