إعادة اكتشاف الذات المصرية
من قلب «المحنة» تولد «المنحة» ومن قلب «الألم» يولد «الأمل».. ومن قلب الليل يولد ضوء الفجر.. يصدمنا الألم والحوادث الكبيرة جميعًا فتجعلنا نتوقف.. ونتأمل ونتدبر.. يصيبنا الابتلاء فلا نملك إلا أن نصبر.. ونتدبر فى حكمة الخالق وإرادته.. وهى حكمة لا ندركها.. بل إننا إزاءها مثل مجموعة من مكفوفى البصر دخلوا حجرة بها فيل ضخم.. فاعتمدوا على حاسة اللمس فى معرفته لأنهم لم يروه كله على بعضه.. فمن أمسك بالخرطوم قال إن الفيل عبارة عن خرطوم، ومن أمسك بالذيل.. قال إن الفيل عبارة عن ذيل.. وهكذا.. نحن البشر أيضًا عاجزون عن الرؤية الكلية.. فإذا سمعنا عن حادث لسيارة فى طريق الساحل مثلًا قال بعضنا إن الله ابتلى أسرة من الأثرياء لحكمة يعرفها.. وإذا سمعنا عن حادث الكنيسة قلنا إن الله ابتلى البسطاء.. والحقيقة أن الابتلاء هو قدر الله يجريه على بعض عباده وقانونه هو أنه لا ينظمه قانون نعرفه نحن البشر.. وحكمته أننا لا نعرف حكمته ولكن يعرفها الله تعالى.. يضربنا الحزن فنتوقف ونفيق ونبحث عما يبعث فينا الأمل.. وأمس الأول ورغم مأساوية الحادث فقد كان هناك الكثير من ملامح المجتمع الجديد فى مصر الذى يتشكل بعد مخاض عنيف أعقب حالة عقم كبيرة وسنوات عجاف.. كان هناك ذلك الجار المسلم.. المصرى الطبيعى.. الذى قفز السور أثناء الحريق، ليساهم فى إنقاذ خمس أرواح بريئة ويحمل جارًا قبطيًا له على ظهره محاولًا الخروج به من الحريق فتزل قدمه وتكسر تحت وطأة حمله.. لكن ما قدّمه آية من آيات الجمال المصرى الذى توارت ملامحه بعض الوقت تحت غبار الزمن.. من ملامح اليقظة أيضًا تلك المتابعة الدءوب على مدار الساعة من كل المسئولين منذ اللحظة الأولى برعاية ومتابعة الرئيس السيسى وتوجه رئيس الوزراء وكل المسئولين المعنيين إلى موقع الحادث، حيث المصاب مصاب مصرى ومسئولية الاطمئنان على الضحايا واجب على كل مسئول مصرى.. وكان من الإجراءات الرمزية أيضًا مضاعفة مبالغ التعويض للشهداء والمصابين وتكفل تحالف الجمعيات الأهلية بدفع مبلغ تعويض مساوٍ للتعويض القانونى الذى تتكفل به وزارة التضامن الاجتماعى.. وكان من الإيجابيات أيضًا ومن التصرفات ذات الدلالة الرمزية توجيه شيخ الأزهر بفتح مستشفيات جامعة الأزهر لعلاج المصابين والتبرع لأسر الضحايا والمصابين من صندوق الطوارئ فى الأزهر الشريف وهو تصرف يقول إن كلنا مصريون نتضامن فى النوائب ونتشاطر التهنئة فى الأفراح، وإن مستشفيات الأزهر منشآت مصرية متاحة لكل المصريين وإننا جميعًا يجب أن نتضامن فى الكوارث، رغم تصريح البابا تواضروس بأن أسقفية الخدمات ستتكفل بما هو واجب إزاء الضحايا وأسرهم وأن الكنيسة لا تعلن عن ما تقدمه لأبنائها من البسطاء وهو أمر مفهوم ومقدر.. تستطيع أن تضيف للتصرفات ذات الدلالة الرمزية أيضًا توجيه الرئيس السيسى للهيئة الهندسية بالبدء الفورى فى إزالة آثار الحريق والبدء فى العمل بالفعل والتعهد بإعادة الكنيسة إلى أفضل مما كانت عليه فى ساعات قليلة وهى خطوة رمزية تؤكد ما هو أكيد من أن جيش مصر فى خدمة كل مصرى وأننا نسيج واحد من خيوط متعددة.. لا يخلو الأمر بكل تأكيد من مزايدين هنا أو هناك تصدمهم الأزمة فيضطرب تفكيرهم أو يرى بعضهم الفرصة مناسبة للصعود على المسرح وجذب الأضواء.. لكن العزاء أن هؤلاء باتوا أقلية ينظر لها الناس باستغراب.. بعد أن كانوا منذ سنوات هم قادة الرأى العام والمتحكمين فيه.. وسر تجاهل الناس لهذه الأصوات هو ثقتهم فى شفافية الدولة المصرية مع مواطنيها واحترافية أجهزة التحقيق والقضاء وشروعها الفورى فى التحقيق فى ملابسات الحادث ومسبباته وتعهدها بإعلان النتائج فور الانتهاء من صياغتها كما هو حال النيابة العامة دائمًا.. ولم يخل الأمر من مزايدات يمكن وصفها بالإيجابية مثل مطالبة البعض بعدم توجيه العزاء لقداسة البابا تواضروس الثالث باعتبار أن المصاب هو مصاب المصريين جميعًا وهى مزايدة فى الاتجاه الصحيح.. فالضحايا مواطنون مصريون بالطبع، ولكنهم أيضًا أبناء الكنيسة المصرية الوطنية وماتوا أثناء تأدية الصلاة، وكان من بينهم كاهن الكنيسة الأب عبدالمسيح بخيت، وبالتالى فمن الطبيعى جدًا أن يتوجه من يريد العزاء لقداسة البابا إذا شاء أو للمصريين جميعًا إذا شاء.. ولعل أجمل تعليق انتشر بتلقائية على صفحات «فيسبوك» هو ذلك التعليق الذى قال فيه المسلمون والمسيحيون «نعزى أنفسنا» وهو تعليق ذو دلالة كبيرة.. يعلن عن بداية ميلاد الذات الوطنية المصرية بعد عقود من محاولات صناعة الفتنة والفرقة.. دهسها المصريون بأقدامهم فى رحلتهم لاستعادة بلدهم بعد ٣٠ يونيو.. ألم أقل لكم إنه من قلب «المحنة» تولد «المنحة»؟!