احتفالية العندليب (٢)
ما لا تعرفه عن عندليب مصر الأسمر
صوته أصل من أصول مصر مثل السد العالى وقناة السويس ولذلك استهدفه المتطرفون وأعداء مصر
الجماعة الإرهابية كلفت داعية موتورًا باستهدافه من على المنبر كل أسبوع لأن صوته عبّر عن حلم مصر فى النهضة
بعد ٩٣ عامًا من ميلاده.. ماذا تبقى من عبدالحليم حافظ؟ الإجابة هى تبقى كل شىء.. أغانيه العاطفية الحلوة والسباقة، أفلامه التى ما زالت مصدرًا للمتعة فى زمن الألوان الصارخة والفجة.. أغانيه الوطنية التى سجلت تاريخ هذا البلد فى الحلم والانكسار وفى الهزيمة والنصر.. كلمات صلاح جاهين والأبنودى، ألحان بليغ والطويل والموجى، خفة ظله وهو يطارد فاتن حمامة.. رومانسيته وهو يحب آمال فريد.. رقته وهو يغنى لمريم فخر الدين، علاقته بفرقة حسب الله السادس عشر فى شارع الحب.. يتبقى منه الكثير والكثير ولكن هذا ليس كل شىء.. الفن ليس هو معيار التقييم الوحيد.. عبدالحليم حافظ جزء من تاريخ هذا المجتمع فى سنوات صعوده.. ابن ثورة يوليو التى غنى لها من القلب.. ساكن الملجأ الذى تقدم الصفوف ليصبح مطرب مصر الأول.. أغانيه سجلت سنوات الحلم فى حياة المصريين، غنى للناس مبشرًا بأن من حق مصر أن تكبر.. وحين وقعت النكسة لم يتنصل.. نزفت حنجرته وبكى صوته وهو يغنى «عدى النهار» و«المسيح»، وحين عبر الرجال غنى لسيناء «صباح الخير يا سينا».. هو مطرب الحلم الذى استهدفه الأوباش من خلال داعية إخوانى موتور وحاقد ظل يهاجمه فى كل خطبة جمعة لسنوات متتالية.. يسخر منه ويشوهه ويشيطنه ويُكفره لأنه كان مطلوبًا هز ثقة المصريين فى أنفسهم وفى بلدهم وفى فنهم وفى إبداعهم.. كان مطلوبًا تمزيق «الصورة» التى غنى لها عبدالحليم حافظ، كما كان مطلوبًا تمزيق «الراية المنصورة»، هذه هى عقيدة الإرهابيين ومَن والاهم ومَن أتاح لهم المنابر خلال سنوات سوداء من عمر الوطن.. حتى فى سنوات التسعينيات والألفية الثانية كان معظم ما قدمته الصحافة معالجة رخيصة لحياة عبدالحليم حافظ، موضوعات أقرب للنميمة الشخصية عن علاقاته بالفنانات أو أسباب عدم زواجه.. أو مقالبه فى زملائه، وهى كلها معالجات رخيصة وصفراء وتسير فى نفس تيار التشويه ولكن بطريقة أخرى لها «تاتش» يسارى.. حيث كان هناك تحليل يسارى أبله يقول إنه كان مطرب السلطة.. والحقيقة أنه كان مطرب الناس وأنه كان مثقفًا وأن حنجرته حملت أشعار أكبر شعراء مصر موهبة للملايين، كما حملت أنغام أعظم ملحنى مصر إلى المليارات فى أنحاء العالم العربى عبر أجيال جديدة.. ولم يكن غريبًا أن يشترك داعية إخوانى وتكفيرى مثل عبدالحميد كشك مع شاعر يسارى مثل أحمد فؤاد نجم فى تشويهه والعداء له.. وإن كان نجم قد تراجع بعد وفاته وربما أدرك حجم الحماقة التى ارتكبها بهجائه لعبدالحليم حافظ واتهامه بما ليس فيه.. يبقى أن عبدالحليم حافظ أصل من أصول مصر.. مثله مثل «السد العالى» و«قناة السويس» و«المتحف المصرى».. أصل لا يُقدر بالمليارات، ولا يمكن تصنيعه ولا تقليده ولا شراؤه.. وإن حاول البعض تشويهه وإقناع المصريين بأن الاستماع إليه حرام.
فى بدايات التسعينيات كنت أمر بحالة يمكن وصفها بـ«المراهقة الفكرية»، كنت متمردًا ومتأثرًا بوجهة نظر تكره عبدالحليم حافظ وأم كلثوم وعبدالوهاب.. ربما كانت هذه بقايا أفكار يسارية تعيسة ترى أنهم «مطربو سلطة»، هذه الفكرة الفارة من الستينيات لا بد أنها أصبحت مثيرة للضحك حاليًا.. إن هؤلاء العمالقة الآن مضطهدون.. مطاردون.. إن السلطة الآن فى يد حسن شاكوش وبيكا وملوخية.. هؤلاء الذين يُدعون فى المهرجانات وتُدفع لهم الملايين وعشرات الملايين، أما عبدالحليم حافظ فمطارد.. يتعرض للتشويه منذ عام ١٩٧٤ حتى الآن.. لا بد أن يساريًا يجلس على مقهى فى الستينيات وصفه بأنه مطرب سلطة لأنه كان مغنى ثورة يوليو.. لكن كل شىء تغير وتم ضرب مصر كلها «فى الخلاط» عدة مرات.. لكن الزميل المدعى الذى طرح علىّ هذه الفكرة لم يدرك هذا.. ولم أدركه أنا أيضًا لأننى كنت صغير السن.. كى أكون صادقًا.. أنا لا أعرف سبب عزوفى عن عبدالحليم بالتحديد.. ربما كانت هناك أسباب أخرى غير هذا التحليل السياسى الخاطئ.. كنت أسمع مطربى الثمانينيات والتسعينيات وأحبهم.. بعد فترة قررت أن أخاصم كل المطربين ما عدا محمد منير وفيروز.. حتى الآن ما زلت أعشقهما جدًا.. وأظن أن كلمات أغانيهما هى السبب.. الاثنان يغنيان لأعظم الشعراء ولهما فهم خاص لدور الفن يختلف عن الغناء المباشر للحبيب، وموسيقاهما أبعد ما تكون عن التقليدية.. موسيقى عالمية يتم تعريبها بعظمة ومهارة وإبداع.. لكن مع الوقت وسهولة الاستماع للأغانى القديمة اكتشفت عبدالحليم حافظ.. إن حنجرته كانت معبرًا لأعظم الشعراء وأكثرهم موهبة.. يكفى أغانيه مع صلاح جاهين والأبنودى.. الأغانى الوطنية تحديدًا.. كلمات حية من لحم ودم تعيش حتى الآن، ليست أغانى مناسبات، ولا «سبوبة».. أغان تسجل فصولًا من تاريخنا «تأميم القنال» و«السد العالى» وحلم تطوير الريف والصورة تحت الراية المنصورة.. لقد أفهمونا أن الحلم كان جريمة.. رغم أن الجريمة كانت فى التخلى عن الحلم.. من حقنا أن نحلم بالنهضة.. ووجود أخطاء يعنى أن نسعى للإصلاح لا أن نتخلى عن الحلم.. هذه الأغانى تم إخفاؤها سنوات طويلة جدًا، ولم تخرج للإذاعة إلا عقب ثورة ٣٠ يونيو التى تقدر قيمة الحلم وتسعى لتلافى أخطاء كل حكام مصر فى عصرها الحديث، الآن بعد أن كبرت وابيض شعر رأسى أعرف على ماذا كان يعاقَب عبدالحليم حافظ وأم كلثوم، ولماذا كان يهاجمهما عبدالحميد كشك أسبوعيًا من على منبر تابع لوزارة الأوقاف.. لم يهاجم محمد عبدالوهاب مثلًا أبدًا.. ربما لأنه يحب صوته مثلًا؟ أو لأن الأوامر لم تصدر له بمهاجمته وتشويهه.. ربما.. كل شىء جائز.. الآن.. وقد فهمت كل شىء لا أحب عبدالحليم فقط ولكننى أيضًا أعرف قيمته.. لو لم يكن بكل هذه القيمة ما استهدفوه.
حين راجعت الأرشيف الصحفى لعبدالحليم حافظ والكتب التى كتبت عنه وجدت أنه لم يكن حَسن الحظ بدرجة كبيرة.. لم تتصد أقلام نقدية كبيرة لتحليل مشروعه.. ربما لأنه رحل مبكرًا «توفى وعمره ٤٧ عامًا» فقط.. أو لأن سنواته الست الأخيرة كانت سنوات أفول صحى وسياسى بعد رحيل جمال عبدالناصر.. هو بالتأكيد ليس فى قيمة أم كلثوم التى اكتمل مشروعها الفنى بامتداد العمر وكتب عنها مثقفون كبار مثل «نعمات أحمد فؤاد» و«رجاء النقاش» و«رتيبة الحفنى» والروائى الفرنسى «سليم ناصيب» والكاتب اللبنانى «حازم صاغية»، فضلًا عن عشرات من الدراسات الأجنبية والأفلام الوثائقية.. نفس الأمر بالنسبة لموسيقار عظيم مثل محمد عبدالوهاب.. بدأ الغناء فى عصر الملك فؤاد الأول وأنهاه فى عهد الرئيس مبارك.. عاصر ملكين وثلاثة رؤساء وأكمل مشروعه على أتم وجه.. وكان دائمًا محل حماية وتقدير.. الأمر مختلف مع عبدالحليم حافظ الذى بدأ مع ثورة يوليو ١٩٥٢ وانتهى فعليًا مع رحيل جمال عبدالناصر.. السنوات الست التى قضاها بعده لم تكن ألطف سنواته.. نجومية أحمد عدوية كانت تقفز من شرائط الكاسيت، وسخرية الشيخ كشك تقفز له من شرائط أخرى، والمرض يزيد عليه، وأحد المطربين يتهمه بأنه يحارب الشباب، والجمهور يتسافل عليه فى آخر حفلاته التى غنى فيها قارئة الفنجان، ويقاطعه بعضهم بالصفير ويصعد أحدهم للمسرح ليقاطعه ويحاول إجباره على ارتداء جاكيت مرسوم عليه فنجان! حوادث لا تحدث فى مصر بسهولة، وإذا حدثت تتدخل الشرطة لتردع من يفعل هذا.. لكن لا أحد تدخل، وهو اتهم مطربة منافسة له وبعدها انفجر كبده بالنزيف وسافر للندن سفريته الأخيرة.. ثم مات.
إن كل هذه الأغانى والألحان والأفلام واللقاءات والبرامج والمعارك قدمها عبدالحليم كلها فى ربع قرن، لقد بدأ الغناء مع ثورة يوليو بأغنية للثورة، وأنهاه بأغنية قارئة الفنجان عام ١٩٧٦ ثم مات.. لقد كان فيه كل المواصفات ليصبح مطرب الثورة.. فلاح من الحلوات شرقية.. ماتت أمه وهى تلده ومات أبوه فى نفس العام.. رباه خاله وتردد على ملجأ فى الزقازيق.. لم يكن الملجأ يحمل نفس المعنى الذى يحمله الآن.. كان مؤسسة تعليمية واجتماعية تقدم الرعاية للأطفال الأيتام ويتكفل به الأثرياء وملاك الأراضى فى المدينة التى يقع فيها لذلك كان سهلًا أن يتعلم الموسيقى هناك، وأن يتم تعليمه دون معاناة مادية كبيرة، خاصة أن شقيقه الأكبر إسماعيل تولى تعليمه وتمهيد الطريق له لدراسة الموسيقى.. فيما بعد قال الشاعر أحمد فؤاد نجم إنه كان زميله فى نفس الملجأ.. لكن نجم لم يتم تعليمه مثل عبدالحليم ودخل السجن فى قضية اختلاس أموال وحكم عليه بثلاث سنوات.. فيما بعد أصبح نجم يساريًا وكتب قصيدة يهجو فيها عبدالحليم، وقيل إن السبب أن عبدالحليم حافظ رفض أن يغنى له، وأنه كوّن ثنائيًا مع الأبنودى الذى يكرهه نجم ويحقد عليه والذى بذل محاولات مضنية لتشويهه طوال حياته.. فى الزقازيق أصبح عبدالحليم صديقًا لصلاح عبدالصبور أعظم شعراء مصر وغنى له قصيدة «لقاء» التى تقدم بها لاختبار الإذاعة.. لم تشتهر الأغنية ولم تستمر صداقتهما لكن الواقعة أكدت لى وجهة نظرى فى عبدالحليم حافظ.. هو مطرب مجدد، وما قام به فى الموسيقى هو نفسه ما قام به أحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور فى الشعر.. النقلة من الفن الكلاسيكى إلى الفن الحر.. أنا لا أفهم فى الموسيقى ولكن أفهم فى الشعر.. محمد عبدالوهاب موسيقار عظيم ولكنه كلاسيكى- تقليدى، تجديده فى إطار الكلاسيكية.. لذلك غنى لأحمد بك شوقى وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل.. إلخ لأن موسيقاه تشبه القصيدة العمودية التى يقدمونها وهى أعمال رائعة وعظيمة بكل تأكيد.. موسيقى عبدالحليم حافظ تُشبه الشعر الحر أو الجديد.. تُشبه قصيدة التفعيلة.. لذلك غنى أول ما غنى لصلاح عبدالصبور ولحن له ملحنون يتفقون معه فى هذه النظرة للفن وأولهم كمال الطويل.. وثانيهم الموجى وثالثهم بليغ حمدى.. أما عبدالوهاب فقد ركب قطار التجديد مع عبدالحليم من منتصف الطريق.. بعد أن صار مشهورًا وناجحًا وله عشاق ومريدون.. نفس الأمر فعله عبدالحليم مع شعراء العامية.. لقد قدم بالطبع روائع مع كتّاب الأغانى العظام «حسين السيد» و«مرسى جميل عزيز» و«أحمد شفيق كامل»، لكنه قدم عبر حنجرته أعظم شاعرىّ عامية فى جيل الستينيات «صلاح جاهين» و«الأبنودى»، لم يغن لبيرم التونسى مثلما فعلت الست أم كلثوم، لأن بيرم شاعر من زمن آخر ليس هو زمن عبدالحليم الذى هو فنان عظيم ومجدد والذى هو صوت مصر، لذلك استهدفوه وشوهوه وسخروا من كلمات أغانيه ومعانيها الجميلة فى الحب والوطنية لأنهم يريدون أن يقتلوا بداخلنا الحب والوطنية.. أنا أحب عبدالحليم حافظ وأرجو منه أن يقبل اعتذارى الذى سجلته عبر هذه السطور.. عبدالحليم حافظ هو عندليب مصر الأسمر وصوتها المخلص الذى أرادوا أن يُسكتوه نصف قرن كامل، ولكنهم فى النهاية لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أبدًا بإذن الله.