الهوس العاطفى والهوس الإعلامى
حين قرأت خبر «حادثة المنصورة» خمّنت أننا إزاء حادث «هوس عاطفى» أو «هوس شبقى»، وحين تابعت ردود أفعال المواقع الصحفية و«السوشيال ميديا» فكرت أننا إزاء حالة هوس إعلامى لا بد من وقفة معه لتحليله ومحاولة ترشيده.. بداية فإن الجريمة جزء من نشاط الإنسان على الأرض.. بل هى جزء من فطرة بعض الناس من الأشرار أو القتلة أو الضالين.. ولو لم يكن الأمر كذلك لما قتل «قابيل» «هابيل» وكلاهما ابن لنبى من أنبياء الله.. الجريمة تحدث فى كل مكان فى العالم.. فى أمريكا ذات القوة والحضارة والمخترعات والرفاهية، كما فى أصغر دولة نامية من دول العالم الثالث يشكو أهلها الفاقة ويطاردهم شبح المجاعة.. نفس الأمر ينطبق على حوادث الانتحار.. تحدث فى السويد التى يعيش شعبها فى ظل دولة «الرفاهة» وتحدث فى مصر ذات المائة مليون نسمة وتحدث فى غيرها من بلدان العالم المائة والثلاثة والتسعين.. لذلك بدا لى من البلاهة أن يكتب أستاذ علوم سياسية أن حوادث الانتحار فى مصر تحتاج إلى وقفة! هذا رجل ذو غرض سياسى أحب أن «يزيط فى الزيطة» على التعبير العامى الجديد.
إذا عدنا لحادث المنصورة ففى أغلب الاحتمالات فإن القاتل يعانى من مرض «الهوس الشبقى»، وهو مرض نفسى يبدأ بالافتتان بشخص ثم مطاردته وتصحبه ضلالات تقول للمريض إن الشخص الذى هو مهووس به يحبه ويتجاوب معه، وبالتالى يزيد فى مطاردته له.. وهو غالبًا ما يكون مصحوبًا باكتئاب حاد وبمجموعة من الأعراض الأخرى، والهوس قد يكون بأحد المشاهير أو بالعاديين من الناس.. وأنا هنا لا أدافع عن القاتل المهووس حيث الحكم عليه هو مهمة القضاء بقدر ما أشرح أن أى حادث مهما بدا طبيعيًا هو حادث بشع.. وأن أى حادث قتل يستحق الإدانة والحزن.. وبالطبع يزيد هذا إذا كانت الضحية فتاة جميلة وبريئة لم ترتكب ذنبًا وإذا كان الحادث تم فى وضح النهار وبطريقة وحشية هى «الذبح».. ومع ذلك فإننى أرى أن هناك «هوسًا» آخر يجتاح المواقع الصحفية والصفحات التابعة لها هو «هوس التريند»، حيث التخلى عن كل القيم والمواثيق بحثًا عن جمهور أكثر.. إن التغيرات التى نحن إزاءها فى شكل الجرائم وهذه الجريمة عمومًا مرتبطة بتطور تكنولوجيا الاتصالات والتصوير وتطورات السياسة العالمية بأكثر مما هى مرتبطة بمسئولية الحكومة التى بتنا نميل لإلقاء كل تهمة عليها وتصفية الحسابات معها فى كل شاردة وواردة تحدث فى البلد.. أول التطورات السامة هو أنه أصبح هناك كاميرا فى يد كل شخص من خلال هاتفه تمكنه من تصوير أى جريمة ونشرها خلال دقيقة بغض النظر عن دوافعه وهل هى وضيعة أم نبيلة.. كل الجرائم منذ عهد آدم، عليه السلام، جرائم بشعة وصورها مؤذية لكننا لم نكن نراها إطلاقًا سوى منذ أربع أو خمس سنوات.. وثانى هذه التطورات المعرفية السامة أن الشباب من جيل هذا القاتل يكتسبون معارفهم من خلال «يوتيوب» و«تيك توك» و«جوجل» وغيرها من مواقع المعرفة التى تحمل الشر كما تحمل الخير.. وبدرجة اليقين فإن أى شاب من الجيل «z» يجرى بحثًا على هذه المواقع قبل أى نشاط يُقدم عليه.. وبالتالى لن أندهش أبدًا لو أن القاتل أجرى بحثًا عن «أسهل طريقة للقتل» فجاءته إجابة محرك البحث بأنها «قطع وريد الرقبة» أو «الذبح».. هذا تصور سام بكل تأكيد لكن لا ذنب فيه لرئيس الوزراء ولا لرئيس جامعة المنصورة ولا للمارين فى الشارع وكل الأطراف التى صب عليها الناس جام غضبهم نتيجة صدمتهم من بشاعة الجريمة.. من التطورات التى ابتلينا بها عقب ما سمى بـ«الربيع العربى» ظهور داعش كتنظيم إرهابى مختلف، يضم إرهابيين أصغر فى السن من جيل إرهابيى «القاعدة»، ويعتمد بشكل أساسى على «ميديا الإنترنت» سواء فى تجنيد الأعضاء أو فى الإعلان عن عملياته، ومبالغته فى تصوير عمليات ذبح الرهائن الذين يختطفهم وحرقهم أحيانًا وقيامه ببث هذا التصوير بشكل مكثف عبر مواقع الإنترنت المختلفة، وهو ما زرع عند بعض المرضى وغير الأسوياء ثقافة الذبح المرتبط بالشعور بالأحقية وإنفاذ شريعة الغاب حتى ولو كان هذا فى عقلهم الباطن.. من التطورات العلمية السامة أيضًا التى لا دخل فيها لوزير أو غفير ظهور المخدرات التخليقية التى هى خليط من نبات القنب الطبيعى وإضافات كيميائية مدمرة ترفع معدلات الغضب لحدود غير طبيعية وتُخرج مدمنها عن شعوره الطبيعى، ولا شك أن الدولة مطالبة ببذل كل جهد لمنع المخدرات ومطاردة تجارها ومهربيها لكنها بالتأكيد لن تستطيع منعها بنسبة مائة فى المائة، خاصة أن لتعاطى مخدر الحشيش جذورًا تاريخية فى المجتمع المصرى منذ عهد المماليك.. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فإننى مضطر لإزعاج المتباكين على كل جريمة تحدث والمنخرطين فى تصويرها وكأنها علامة القيامة ودليل انهيار الدولة وخراب المجتمع.. إننى مضطر أن أصدم هؤلاء فأقول لهم إن تراثنا التاريخى للأسف يتعاطف مع القتلة ويمدحهم خاصة إذا كانت الضحية امرأة.. فنحن لدينا موال يخلد سيرة «متولى الجرجاوى» الذى قتل شقيقته «شفيقة»، وللأسف فإن الموال جميل وممتع ولكنه يخلد قاتلًا، وهو نفس الأمر الذى ينطبق على «ياسين وبهية» حيث لم يكن «ياسين» سوى قاتل محترف خارج على القانون خلدته العقلية الشعبية التى ترى فى القتل فعلًا جسورًا ومزعجًا للسلطة التى يكرهها الناس ويتهمونها بالظلم بالحق حينًا وبالباطل أحيانًا.. أنتقل من القاتل المهووس وملابسات التطورات العلمية السامة التى غيرت شكل الجريمة لحالة الهوس الإعلامى، حيث الانفلات من كل قيد أخلاقى وإذاعة بعض الصفحات فيديو يصور الجريمة بعد دقائق من وقوعها، وغياب أى محاولات لتفسير نفسى وعلمى للحادث واللجوء لتصريحات مبتسرة ذات طابع غير جاد، مثل قول أحد جيران المتهم إنه شاب هادئ لا نسمع صوته إلا عندما يضرب والدته!!! وهو تصريح عبثى أقرب لنكتة هدفه ركوب «التريند» بدلًا من البحث فيما وراء التصريح عن حالة المتهم النفسية ومشاكله الأسرية وتاريخ هوسه بالضحية، وهى كلها معلومات مفيدة فى تنوير الرأى العام والإضافة للمعرفة عمومًا، لكن شيئًا منها لم يحدث إطلاقًا مع الأسف.. من علامات المرض الجماعى أيضًا فى وسائل التواصل توجيه الغضب فى الاتجاه الخاطئ، مثل سب رئيس جامعة المنصورة لأن بيانه خلا من التعاطف مع الضحية أو اكتفى بتوضيح أن الجريمة حدثت خارج الجامعة، والانخراط فى إدانة المارة الذين لم ينقذوا الضحية رغم أن الجريمة غالبًا تمت فى أقل من دقيقة، ورغم أن المارة كادوا أن يفتكوا به، وأن موظف أمن الجامعة هو الذى كان أول من انتبه وأمسك به.. من علامات الهوس أيضًا أن يستغل البعض وقوع حادث انتحار فى نفس يوم جريمة القتل ليتوسع فى النشر وكأن الشوارع أصبحت مليئة بالقتلى والمنتحرين وكأن علينا أن ننتظر الطوفان.. هذه الحالة من الهوس واللا مهنية والاستغلال السياسى لحوادث ومآسٍ إنسانية لا بد أن تتوقف، ولا بد أن تعود نقابة الصحفيين لممارسة دورها فى التدريب، ولا بد أن يُلزم المجلس الأعلى للإعلام كل موقع حاصل على ترخيص بسداد تكلفة تدريب محرريه تحت إشراف النقابة قبل بدء العمل.. حالة الهوس على «وسائل التواصل» لا تقل خطورة عن الهوس العاطفى الذى دفع المجرم لارتكاب جريمته ولا بد من وقفة معها لأنها لا تنبئ بخير.