استنساخ مصطفى محمود
ظاهرة جديدة بدأت تلوح فى الأفق بعد سنوات بعيدة من انتهائها، إنها عودة لاستخدام العلم فى التدين والدعوة الإسلامية. والأمثلة نراها الآن واضحة فى محاولات الرجوع إلى أقوال وأحاديث مصطفى محمود وتداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعى بكثرة.
غير أن ما يلفت النظر هو محاولات استنساخ لنماذج مشابهة لمصطفى محمود «١٩٢١-٢٠٠٩» فى أحاديثه المتلفزة عن العلاقة الوثيقة بين العلم والإيمان. ولمن لا يعلم فإن مصطفى محمود كان طبيبًا ترك الطب وعمل بالصحافة، ثم انتقل إلى الدعوة الدينية بكتاباته ضد الإلحاد وتعزيز الدعوة الإسلامية من خلال أسانيد وبراهين علمية، وادعاؤه أنه كان ملحدًا وتاب إلى الله وعاد مؤمنًا.
وأذكر أننى فى شبابى قرأت له كتابًا مشهورًا بعنوان: «رحلتى من الشك إلى الإيمان»، وكتابًا آخر بعنوان «حوار مع صديقى الملحد»، وكان أسلوبه فى الكتابة جذابًا للغاية لجيل الشباب فى ذلك الوقت. وكان له أيضًا برنامج تليفزيونى شهير بعنوان «العلم والايمان»، وفيه استخدام للأفلام العلمية الوثائقية وهو يتحدث فى الخلفية ليشرح للناس الاكتشافات العلمية على أنها إعجاز علمى للقرآن، وينتهى فى نهاية كل حلقة بذكر آيات قرآنية وأحاديث نبوية تؤكد تلك الاكتشافات وتبرهن على أن القرآن برهن عليها؛ بما يعنى الدعوة إلى التدين بأن الدين عظيم لو تمسكنا به.
كان مصطفى محمود أول من قدم الدعوة الدينية من خارج العلوم الدينية بطريقة جديدة وغير تقليدية تفوق قدرة رجال الدين فى ذلك الوقت، الذين يتبعون المؤسسات الدينية الرسمية.
الآن تعود إلينا موجة أخرى من هذا الاتجاه دون أن تطرح ابتكارًا جديدًا، حيث تظهر نماذج أخرى شبيهة تمامًا بمصطفى محمود فى طريقة حديثه وصوته ولغته من جانب بعض المشتغلين بالعلم والطب ممن يمارسون الدعوة الدينية بلغة العلم، ويمارسون لعبة التنمية البشرية وتحفيز الشباب على الهداية والإصلاح بلغة فيها مزيج من العلم والدين. وبعض هؤلاء تحول فجأة إلى شخصية إعلامية مؤثرة فى الدعوة الدينية بعباءة طبية، ومنهم طبيب شهير مشهود له بالكفاءة فى تخصصه، ويتمتع بقبول اجتماعى إعلامى واسع النطاق، حيث يقول لنا: «العلماء اكتشفوا أن الشريان التاجى يضيق بشدة فى الثلث الأخير من الليل أثناء النوم، وأن الاستيقاظ يؤدى إلى تحسنه وتفادى الإصابة بأزمات قلبية أثناء النوم. ولهذا فإن الإسلام سبق هؤلاء العلماء حين دعا إلى صلاة الفجر باعتبارها خيرًا من النوم، وبالتالى فالإسلام- حسب رأى هذا الطبيب- يقدم الحل السحرى لتفادى الإصابة بأزمات قلبية».
والأمثلة على هذا النوع من الكلام كثيرة ومنها ما يجرى حاليًا الجدل بشأنه حول الجملة التى تقول: «الأمراض النفسية لا تصيب المؤمنين»، وفى مثل هذه الأحاديث يتفنن هذا الطبيب ببراعة فى ربط الدلائل العلمية على الإصابة بالأمراض بمرجعية دينية، لدرجة جعلت منه نجمًا إعلاميًا جديدًا فى سماء الدعوة الدينية، فى ظل انحسار نجوم الدعاة.
وبغض النظر عن مدى صحة هذا الكلام من الناحية العلمية، ومدى تأثيره على نشر الدعوة الدينية بين الناس، فهو بالتأكيد له مردود سلبى على العلم والدين معًا فى المدى البعيد، ولن نجنى منه سوى الاستهانة بالعلم والإساءة للدين.
فالعلم نظام من التفكير يقوم على الاحتمال والشك، وهذه من مقومات التقدم والتراكم العلمى، بينما الدين يقوم على الاعتقاد واليقين، وهذه من مقومات ثبات العقيدة واستقرارها فى نفوس المؤمنين بها، وإذا صح تطابق التفسير الدينى مع التفسير العلمى الآن، فلن نضمن أن يستمر هذا التطابق فى المستقبل حين تخرج نظريات وأبحاث ومكتشفات جديدة تثبت خطأ أى فكرة علمية سادت من قبل وأيدها تفسير دينى ما.
لقد سبق أن رأينا من قبل كثيرًا من تجليات هذه الظاهرة التى تتخذ من الأدلة العلمية سبيلًا لتعزيز الدعوة الدينية وتتخذ فى المقابل من المرجعية الدينية أسلوبًا فى تحقيق الشهرة لدى المتدينين، ومن بين ذلك ما حدث سابقًا تحت ما سمى بأسلمة العلوم بما فى ذلك العلوم الاجتماعية. ووجدنا كتبًا كثيرة ومقالات صحفية وبرامج إعلامية أنفقت فيها أموال كثيرة لتعزيز فكرة انتشرت بقوة خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين مؤداها أن كل ما أنجزه العلماء من بحوث واكتشافات كلها لها أساس دينى إسلامى.
وحول هذه الفكرة كتب زغلول النجار كل مقالاته الأسبوعية الطويلة لتقديم دلائل من الجيولوجيا على الإعجاز العلمى للقرآن فى جريدة الأهرام، وعبر كل أحاديثه الإعلامية خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. وعلى نفس النهج حاول كثير من الطامحين إلى الشهرة من المتخصصين فى العلوم الطبيعية وكذلك العلوم الاجتماعية والإنسانية، التحدث فى الدين بلغة علمية، وقد عزز من هذه الظاهرة وجود كوادر دينية من خلفيات علمية فى مجالات الطب والهندسة لدى تيارات الإسلام السياسى وبالأخص الإخوان.
وبموجب ذلك ساد الاعتقاد بأن القرآن ليس كتابًا فى الدين فقط، بل هو أيضًا يحوى كل أسرار الطبيعة والكيمياء والأحياء والكون والوجود والحياة الإنسانية ككل قبل أن يتوصل العلماء إلى اكتشافاتهم ومعارفهم؛ بما يعنى أن الدين يغنيك عن العلم.
ومن المنطقى أن تلجأ الأصولية الدينية إلى العلم بقوة وتوظفه لأغراضها من خلال استقطاب نخبة علمية لأسباب تتعلق بهيبة العلم فى المجتمع والتأثير الذى يحظى به مظهر العلم بخطابه وأدواته المنهجية فى القياس والتجريب، والتى تجعل منه مصدر قوة فى تأكيد المكانة والهيبة والقدرة على الإقناع، وهذا ما تحتاج إليه الأصولية الدينية الحديثة لكى تعزز من قوتها وحجتها فى المجتمع.
فالصورة الذهنية التقليدية عن رجال الدين الذين لا يعرفون من المعارف المعاصرة شيئًا، لم تعد مقبولة لدى التنظيمات الدينية التى تنمو فى قلب الطبقات المتوسطة بالمجتمعات العربية.
ومع وجود تدفق هائل فى المعرفة أصبحت المرجعية العلمية فى الوجود الإنسانى تهدد المرجعية الدينية ما لم تتصالحا أو تمتزجا معًا فى قوالب فكرية مشتركة، لهذا اعتمدت جماعة الإخوان المسلمين على نخبة من المتخصصين فى العلوم الطبيعية لتكون جزءًا لا يتجزأ من مظهرها وأداة رئيسية فى تعزيز انتشارها وتأكيد وجودها المتميز فى المجتمع.
غير أن ما يدعو إلى الدهشة هو لجوء المشتغلين بالمعرفة العلمية إلى الدين لتبرير مصداقيتهم فى المجتمع من خلال إعادة إحياء لتيار أسلمة المعرفة العلمية الذى أثبت فشله وتهافت منطقه.
ويظل السؤال مطروحًا: لماذا يترك هؤلاء المشتغلون بالمعرفة العلمية ملعبهم الحقيقى فى العلم وتطبيقاته ويتخلون عن المعايير العلمية ويبحثون عن المصداقية بمعايير دينية؟.. من الواضح أن السبب يكمن فى الحاجة إلى الشهرة والمكاسب الشخصية المادية المضمونة، خاصة فى ظل الفراغ الدينى الهائل بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ واتساع الطلب الاجتماعى على اليقين الروحى، وعجز المؤسسات الدينية الرسمية عن ملء هذا الفراغ، وضعف وتهافت الثقافة العلمية فى المجتمع.