انقطاع مسيرة التنمية.. العدو الأول لمصر
أتأمل فى أحوال العالم وانعكاسها علينا هذه الأيام، أرى من يشمت فى الدولة وهو لا يعرف أنه يشمت فى نفسه، وأرى من يتمنى الخراب وهو لا يعرف أنه لو حدث لا قدر الله فسيدفع الثمن مثل غيره وسيكون الثمن فادحًا جدًا جدًا جدًا.. أتغاضى عن العملاء والممولين وأعداء المصريين بالفطرة، وأتوقف أمام المواطن العادى الذى يعانى، ويتخيل أن الانهيار لو حدث لا قدر الله سيعنى فناءه.. فالمعاناة الاقتصادية ستتضاعف عشرات الأضعاف ومعها معاناة أخرى فى كل شىء تقريبًا.. أتأمل فى التاريخ المصرى الحديث وأرى أن مشاكلنا تكمن فى انقطاع محاولات التنمية المختلفة وعدم استمرارها وكأن هناك من كان يقصد هذا.. أو يتعمده.. أو وكأننا أعداء أنفسنا.. خلقنا الله بلا صبر ولا قدرة على التحمل.. وفى كل مرة كنا نندم ونعض أصابع الندم حين لا ينفع الندم.
كانت التجربة الأولى هى التجربة الليبرالية التى تلت ثورة ١٩١٩ وأنهتها ثورة يوليو.. كانت تجربة ليبرالية اقتصادية أساسها أن القاهرة كانت مركزًا لرءوس أموال وصناعات أجنبية، وأن أقطانها كانت جزءًا من صناعة النسيج البريطانى المزدهرة.. بدا لنا كشعب أن نهاية الحرب العالمية الثانية هى نهاية مناسبة لهذه الظاهرة.. سقط النظام السياسى فعليًا مع حريق القاهرة الذى استهدف ممتلكات الأجانب تحديدًا وأحرقها كلها، وانتهت تجربة التنمية على النمط الليبرالى بأيدينا نحن وإرادتنا نحن وكان علينا أن نبدأ من جديد.
نتيجة انتهاء معادلة السياسة التقليدية «الوفد- الملك- الإنجليز» وسقوط النظام فعليًا.. تدخل الجيش، ممثلًا فى قياداته الوسيطة من الضباط الأحرار، وولدت زعامة جمال عبدالناصر كسياسى شاب ونزيه يفهم متغيرات العالم ويجاريها ويستفيد منها.. بذل مجهودًا خرافيًا رغم أى عيوب فرضها عليه الوضع السياسى.. انخرط فى تجربة تنمية مستقلة ونجح فى بناء مئات المصانع وآلاف المدارس، واستثمر فى تعليم أبناء الفقراء وبناء طبقة وسطى مصرية من نقطة الصفر تقريبًا.. أخطأ بلا شك وانجر للحرب مع إسرائيل ووقعت النكسة.. أشرف على إعداد الجيش، وكنا جاهزين للعبور قبل وفاته، حسب شهادة كثير من القادة، على رأسهم الفريق محمد فوزى، القائد العام للجيش وقتها.. والمعنى أننا كان يمكن أن نخوض المعركة ثم نواصل تجربة التنمية ولو بمعدلات أقل.. لكن «الانقطاع» كان قدرنا ومأساتنا الكبيرة، وكأننا «سيزيف» الذى عاقبته الآلهة بأن يحمل على كتفه الصخرة طوال حياته.. جاء الرئيس السادات ليسير فى طريق عكسى وأيدته الجماهير فى معركته مع رجال عبدالناصر، وحدث الانقطاع، لأن السادات رأى أن يسير فى طريق عكسى.. وقاد الانقطاع الثانى فى مسيرة التنمية المصرية.. توقف الاستثمار فى القطاع العام، وتم تشجيع رأس المال الخاص، وأطلق السادات وعودًا ضخمة بالرخاء مرتبطة بحالة السلام والاندماج فى المعسكر الغربى.. لم يكن حظه سعيدًا وجاءت الانتخابات الأمريكية برئيس لم يكن يحبه ولا يتعاطف معه، وتدخل الإرهاب ليقطع تجربة السادات فى التنمية وسط لا مبالاة شعبية شارك فى صنعها سياسيون ومثقفون وشعراء، لا يعنينى هنا الحكم على موقفهم بقدر ما يعنينى أن أسجل أن مصر شهدت ثلاثة انقطاعات لتجارب تنمية خلال فترة أقل من عشرين عامًا، ولم يكمل أى من قادتها ما بدأه «مصطفى النحاس- جمال عبدالناصر- السادات».. وجاء الرئيس مبارك.. وخدمته الظروف بأكبر مما خدمت أى رئيس مصرى.. وتم إسقاط نصف ديون مصر بعد حرب الخليج، وكان الظرف مواتيًا للانطلاق.. لكننا لم ننطلق، وكانت مشروعات البنية الأساسية أقل من الطموح العادى وأقل مما تحتاجه مصر، واستدعى الأمر مرور خمسة وعشرين عامًا على حكمه كى يظهر بعض المؤشرات الإيجابية بعد عام ٢٠٠٦.. لكنها كانت مشوبة بحكايات فساد وانعدام للعدالة وتهميش الفقراء وتصاعد للتطرف.. فانتهت التجربة بثورة يناير.. وأنا طبعًا لست متعاطفًا مع مبارك الأب ولا مبارك النجل، وربما أعرف عيوب هذه الفترة أكثر من غيرى، ولكننى أسجل أيضًا أنه للمرة الرابعة حدث انقطاع فى نمط التنمية بدلًا من ترشيده وتصحيح عيوبه والمحافظة على مكاسبه، ولم يكن غريبًا أن تكون خسائر مصر الاقتصادية وقتها ٤٠٠ مليار دولار، حسب تصريح د. مصطفى مدبولى رئيس الوزراء.. وقد كان أحد الأسباب الرئيسية لذلك سرقة الإخوان للثورة والتصعيد المستمر فى الشارع والمطالبة بإعدام المسئولين السابقين والتطاول على القوات المسلحة والمظاهرات الفئوية... إلخ، وأيًا كانت التفاصيل فقد شهدنا رابع انقطاع لتجربة تنمية قبل أن تكتمل خلال ستين عامًا من عمر مصر.
ابتسم القدر لمصر حين نجحت ثورة ٣٠ يونيو وأفرزت التحديات قائدًا وطنيًا بحجم الرئيس عبدالفتاح السيسى.. انخرطت الدولة فى تجربة تنمية طموحة تريد أن تعوض كل ما فات.. كانت هناك رؤية واضحة لإعادة بناء مصر والاستفادة القصوى من موقعها العالمى.. تم بناء شبكة طرق ومواصلات عملاقة تربط إفريقيا بآسيا بأوروبا استفادة من موقع مصر الفريد.. تمت مضاعفة مساحة العمران التاريخى فى مصر خلال سبع سنوات فقط.. تم التخطيط لاستصلاح ما يقارب أربعة ملايين فدان فى الدلتا الجديدة ومستقبل مصر وغيرها من المشاريع... إلخ.. وما لا يعرفه الكثيرون أن هذه المشاريع كانت موجودة بالفعل فى أدراج الدولة المصرية ومعدًا لها الدراسات اللازمة من جهات تنمية دولية وعالمية، لكن ضعف الخيال والإرادة كان يحول دون تنفيذها.. بكل تأكيد أتت الرياح بما لا تشتهى السفن، وتعاقبت أزمتان كبيرتان على العالم ودفع الكثيرون الثمن.. ولا شك أننا جميعًا نعانى من الغلاء.. ولا شك أن معاناتنا جميعًا ستزيد طالما استمرت الحرب وتوابعها على الاقتصاد العالمى.. وكل هذا يمكن أن يحتمل.. لكن ما لا يمكن أن يحتمله أحد هو أن يحدث انقطاع فى تجربة التنمية الخامسة دون أن تكتمل.. إن هذا هو الجنون بعينه.. والخراب بعينه الذى يطلق البعض فحيحه عبر الشاشات محاولين إقناع الناس به.. إن انقطاع هذه المشاريع قبل اكتمالها يعنى مغادرة حجرة العمليات والمريض ما زال بطنه مفتوحًا.. يعنى إطفاء النار على القدر قبل أن ينضج الطعام فيكون مصيره البوار وخسارة كل ما دفعناه فى الطبخة.. وهو يعنى أيضًا أننا نعلن فشل مصر فى تنمية نفسها للمرة الخامسة خلال سبعين عامًا، وهو يقود إلى سيناريوهات التفتيت والتقزيم والضياع.. ما دامت الدولة المصرية وفق مخططات الآخرين قد فشلت فى التنمية عبر كل هذه السنوات.. فى السنين الأخيرة زاد اعتقادى فى وجود المؤامرة السياسية التى لا يسميها أصحابها كذلك.. وأظن أن هناك مؤامرة تدفع الأحداث فى مصر دائمًا للطريق الذى يؤدى لانقطاع مسار التنمية قبل ٥٢ وبعد ٥٢.. فى عهد السادات كما فى عهد مبارك والآن ترسم الخطة لقطع مشروع التنمية الذى بدأه ويقوده الرئيس السيسى.. لذلك علينا أن ننتبه وأن نفكر جيدًا فيما يدفعوننا إليه.. وعلى الآخرين أن يدركوا أن الأمر لن يكون سهلًا ولا نزهة خلوية، وأن الثمن سيكون فادحًا جدًا على الجميع.