لا للتصالح مع الفساد
فى الفيلم السينمائى الشهير «معالى الوزير»، يروى الوزير أن فساده كان سبب صعوده فى رحلته الوظيفية، وأن «الفساد» يحقق إنجازات أسرع من التى يحققها العمل الجاد والطرق المستقيمة، وأن السمسرة والعمولات وغسل رءوس الأموال العالمية الملوثة قد تحقق رواجًا لا تحققه المشروعات الكبيرة التى تعالج الخراب الذى امتد لعقود وسنوات طويلة.. كان الكاتب وحيد حامد فى هذا الفيلم يقرأ كف سنوات طويلة من حكم مصر.. تم فيها التسامح مع الفساد، والسماح به ثم تبريره والترويج له.. وتحول فيها رئيس البلاد من قائد عسكرى تنحنى الرءوس تحية لدوره فى النصر إلى «أبوعلاء- شريكى فى القهوة»، على حد تعبير إحدى النكت الشهيرة فى التسعينيات.. كان أخطر ما حدث أن الفساد أصبح مكافأة لمن يخدم النظام وأنه للأسف ارتبط بكثير من المسئولين الذين بدأوا حياتهم بكفاءة.. وكان التورط فى الفساد فى ذلك الوقت شرطًا للاستمرار بالقرب من القمة.. كانت الروائح تزكم الأنوف، وكانت المعلومات متاحة وعلنية لأن الفساد نفسه كان يرتدى ثوب القانون ويعبر عن نفسه فى شركات وأنشطة تجارية يمتلكها أبناء المسئولين ويسعون بها لاحتكار الأسواق والحصول على التوكيلات وفرض نسب تجارية على كل نشاط تجارى يتم فى البلاد، وكان ذلك يتم لحساب جيوب المسئولين وأبنائهم ويخرج ليرقد فى حسابات البنوك الأجنبية ولم يكن يتم لحساب البلد، وبين الحالين فارق كبير جدًا.. كان أخطر ما يتم أن أعلى سلطة فى البلاد كانت تبرر الفساد، وأن الرئيس وقتها لم يكن يكف عن تكرار عبارات من عينة «الفساد موجود فى كل العالم» و«الفساد ظاهرة عالمية»، وأظن أن ذلك كان يتم تكراره فى كل حوار أو خطاب أو مناسبة تسمح بذلك، وكان الهدف هو إحداث نوع من التطبيع مع الفساد والقبول به بين أفراد الشعب.. بل إن بعض من أخذوا على عاتقهم الترويج لـ«التوريث» نشروا فى الأوساط الشعبية نفس المقولة بشكل آخر.. فما أن تركب سيارة أجرة حتى يقول لك السائق «فلان ولاده سرقوا وشبعوا خلاص.. فمفيش داعى نجيب حد جديد يسرق من الأول».. وكان هذا هو قمة الهوان الذى يطرح على شعب عريق وعلى دولة عمادها مؤسسات وطنية لا تعرف سوى الشرف والفداء والتضحية.. كان الهدف إقناع الشعب أنه محاصر بالفساد من جميع الجهات.. وأن «الحرامى اللى نعرفه.. أحسن من الحرامى اللى منعرفوش».. وكان من أشكال التطبيع مع الفساد وإقناع الناس بأنه شىء عادى.. أن الرئيس الأسبق هو الذى كشف بنفسه عن تجارة أصغر أبنائه فى ديون مصر.. فى حوار أجراه مع الصحفى الكبير مكرم محمد أحمد لمجلة المصور عام ١٩٩٣، وقد قيل إنه غضب على مكرم بعد نشر الحوار.. وكانت الفكرة أن أى بلد فقير يماطل فى سداد بعض الديون انتظارًا لتخفيضها أو تنازل الجهة الدائنة عن فوائدها.. لكن نجل الرئيس كان يشترى هذه الديون المعدومة من أصحابها ويتولى تحصيلها من الخزانة المصرية على «داير مليم» وفى أسرع وقت بعد أن فقد أصحابها الأصليون الأمل فى تحصيلها.. فهو مثلًا يشترى دينًا على مصر قيمته مائة مليون دولار بمبلغ زهيد ويتولى تحصيله بالكامل مع الفوائد وهكذا.. وهذا النشاط المبكر لم يكن سوى غيض من فيض وحبة رمل فى جبل وقطرة فى نهر.. ولعل جعبة الأسرار فى هذا المجال تمتلئ بالكثير والكثير.. ومع السنوات فإن ما كان سرًا أصبح أمرًا علنيًا.. وتحول أعضاء شلة الابن فى المدرسة والجامعة إلى حيتان مالية ضخمة «يهبشون» كل ما يمكن الوصول إليه هنا وهناك.. وتشكلت نخبة مالية لا تُشبه الناس فى شىء.. وتُكن فى أعماقها مشاعر احتقار وكراهية للشعب.. وترى مصر شركة ضخمة يمكن أن تدر إيرادات أكبر على أيديهم.. وسادت مصر منذ عام ٢٠٠٠ حتى ثورة يناير أكبر حالة كراهية شعبية للنخبة الحاكمة، وأكبر حالة احتقان شهدتها مصر منذ اغتيال الرئيس السادات.. وواصلت نخبة الفساد اغترابها عن المجتمع وبدأت فى خلق دوائر من أصحاب المصالح حولها بتلك الملامح المشوهة والمتعالية والكارهة لشعب مصر والمتعالية عليه.. وأذكر أن أحد أماكن العمل جمعنى بصحفى يكبرنى بضع سنوات التحق بخدمة مجموعة رجال الأعمال فى أمانة السياسات.. أخذت أرقب التغيرات التى لحقت بهذا الزميل ذى الأصل البسيط والشعبى.. طرأت عليه مظاهر ثروة حققها من عمولات الإعلانات والاستشارات.. إلخ.. لكن أغرب ما لاحظته فى سلوكه أنه بدأ يحمل فى محفظته الدولارات بدلًا من الجنيهات المصرية.. وإذا أراد مكافأة صحفى مثلًا قال إنه سيمنحه مائة دولار إذا أتى بالخبر الفلانى! إذا أراد الرهان على شىء قال لك إنه يراهنك بمائة دولار على كذا!!!.. كنت أتأمل هذا الصحفى «الخادم» وأدرك أن سلوكه هذا ليس سوى تقليد لمن يخدمهم.. وأسأل نفسى.. إذا كانوا يكرهون عملة البلد الذى يريدون حكمه ولا يتعاملون بها، فكيف يمكن ائتمانهم عليه؟ لا يمكن طبعًا لا اليوم ولا الأمس ولا غدًا.