الدايرة المقطوعة واليأس المشرق
شعور اليأس، عادة ما يكون مصحوبا بـ حالة كدافيها فيض من السوداوية والوهن، داخل غلاف من الكآبة، وعدم الرغبة في استمرار الحياة. حالة بـ تكون فيها التعاسة سيدة الموقف.
الوحيد (في حدود علمي)اللي قدم اليأس عكس كدا، هو عبد الرحمن الأبنودي، خصوصا خصوصا في قصيدة "الدايرة المقطوعة"، اللي هي حالة يأس بيور، يأس مقطر، إنما الكلام متدفق وفياض وبـ يلمع.
هو بـ يقدم فيها اليأس كـ موقف فاعل، وشعور إيجابي صحي، وبـ يخلق عند المتلقي (في ظني) رغبة أكبر في الحياة، والاستمتاع بيها، عن طريق التصالح مع (وجود) ما ترفضه، مش التصالح مع ما ترفضه نفسه.
يعني مش التكيف مع القبح (أو ما تراه قبحا)والتفاعل معه وبه، إنما تلاقي طريق تمشي فيه، من غير ما تكون حرب هذا القبح ضرورية.
إحنا عارفين إنه الأبنودي كان عضو في تنظيم شيوعي، وغير العضوية التنظيمية، هو كان فاعل في أوساط اليسار المصري خلال الستينات، وفترات من السبعينات، وكانت قصايده الثورية، بـ تتسجل على شرايط كاسيت وتنتشر في القعدات الخاصة، خصوصا قصايد زي موالين من السجن، والمتهم، وسوق العصر، وغيرها وغيرها.
أنا مش عارف إيه اللي حصل تفصيليا، لكن اللي أعرفه إنه الأبنودي بدأ يغير نظرته لـ العالم، بـ التالي علاقته بـ العمل السياسي والجماهيري كله، وكانت من أوائل المراجعات قصيدة "الدايرة المقطوعة"، اللي بـ يشكك من خلالها في فكرة "تغيير العالم" اللي اليسار كله كان حالم بيها.
الفكرة هنا هو إنه اليسار ما كانش بـ يشتغل "سياسة"، السياسة جزئية وبـ تنطلق من حدود الواقع، وبـ تتفاعل مع سياق محدد في إطار معين، إنما هم كانوا بـ يشتغلوا ثورة، والثورة المأمولة مش بس محلية ولا إقليمية إنما تمتد لـ خلق عالم كامل جديد، في أرجاء المعمورة.
يمكن مش كل اليسار كدا، الناصريين برضه كانوا بـ يتحسبوا يسار، وربما ما عندهمش أحلام الأممية زي الشيوعيين، بس برضه الحلم الإقليمي العربي ن المحيط إلى الخليج، برضه بـ شكل أو بـ آخر يستدعي تغيير العالم.
فكرة تغيير العالم كانت منطلقة من "الجماهير"، "الشعب"، الجماهير القادرة على التغيير من خلال الثورة الكبرى، فـ إحنا كـ يسار لازم نشتغل على تلك الجماهير، ونفضل نبشر بـ اليوم اللي هـ تنتفض فيه ضد الظلم.
الأبنودي بقى رش لهم شوية تراب على الطبخة الحلوة دي، وقال بـ بساطة ووضوح إنه دا مستحيل، لـ إنه الجماهير اللي حضرتك بـ تتكلم عنها دي، لا تتبنى رؤيتك أو خطابك، ولو حتى على مستوى الشعور مش الوعي، وعمرها ما هـ تتبناه.
اليسار اتهم الأبنودي كتير إنه أمن أو خاين أو أو أو، لكنه ما اهتمش، وكمل، ما أقدرش أقول إنه سلوكه كان "نزيه" بـ صورة كاملة أو واضحة، لـ إنه فيه كتير من علامات الاستفهام، لكن حتى علامات الاستفهام دي بـ أفهمها من خلال منهجه اليائس، اليائس يأسا مشرقا مش محبطا، اللي هو إزاي توصل لـ المعادلة: ملعون أبو العالم، مش ملعون أبو الحياة