لا للمراهقة السياسية
أهم ما تحتاجه مصر حاليًا هو الحوار فى إطار الوطن.. وآخر ما تحتاجه هو «المراهقة السياسية»، المصطلح مشتق من أدبيات سياسية يسارية.. والمراهقة مشتقة من الفعل «رهق» أى اقترب.. والمراهق هو طفل يقترب من أعتاب الرجولة.. والمعنى أنه لم ينضج بعد.. مزاجه يكون حادًا.. وعواطفه تغلبه.. وانفعالاته تسبق تفكيره.. وهو عادة ما يتهم والديه بالتقصير معه.. أو اضطهاده.. أو حرمانه من تحقيق أحلامه.. والسبب فى هذا هو قلة خبرته وعدم تقديره الظروف المحيطة بعائلته.. فإذا كان يسكن فى العجوزة مثلًا فهو يتهم والده بالتقصير لأنه عجز عن شراء مسكن فى الزمالك.. وإذا كان يسكن فى شقة سكنية واسعة اتهم والده بأنه عجز عن شراء فيلا مثلما يفعل الآخرون.. جزء من مشكلة المراهق أنه يمر بتغيرات جسدية ونفسية ومزاجية حادة، فهو طفل يستقيظ ليجد أن جسده أصبح جسد رجل.. فيرتبك.. ويندفع لتأكيد ما أصبح عليه بتحدى سلطة مدرسيه مثلًا أو والديه أو بتدخين السجائر أو أى سلوك كان يرى الكبار يفعلونه وهو طفل.. فى المراهقة السياسية يسلك المراهق نفس السلوك.. يرفع سقف أحلامه للسماء.. يريد أن يفرغ شحنة انفعاله العاطفى بأى طريقة.. وهو فى سبيل هذا يلجأ لـ«المزايدة»، وهو مصطلح مشتق من المزاد.. حيث يدخل أحدهم ليطرح سعرًا غير منطقى للسلعة.. وبعد أن يشتعل السعر ينسحب، لأن مزايدته لم تكلفه شيئًا سوى دفع الآخرين للخسارة.. وما فعله هو مجرد كلام.. فى عالم «المراهقة السياسية» فإن باب المزايدة واسع.. فإذا سمع المراهق السياسى أن مشروع «حياة كريمة» يغطى بخدماته ستين مليون مصرى، فيمكنه أن يخرج بتعليق يقول إن المشروع غير كافٍ وإنه يجب أن يغطى سبعين مليونًا مثلًا.. وسيجد بعض المستمعين أن كلامه منطقى ولا غبار عليه.. لكنه لا هو ولا من يسمعه يعرف من أين يتم تدبير الأموال، ولا ما هى خطة العمل ولا صعوبات الواقع ولا حجم العمل المطلوب.. هو فقط يمارس شهوة الكلام، وهو كما نعرف «ليس عليه جمرك».. وهكذا فى كل الأمور.. فإذا قلت للمراهق إن الدولة شقّت سبعة آلاف كيلومتر من الطرق يمكنه أن يقول لك إن الدولة مقصرة وإنه كان عليها أن تشق عشرين ألف كيلومتر مثلًا.. وربما يسمع هذا الكلام شخص ما فيستحسنه أو لا يراه ضارًا.. لأنه لا هو، ولا من تحدث، يعرف تكلفة شق كيلومتر واحد.. أو حجم الجهد اللازم أو الهدف أصلًا من شق الطرق ولا خطة التنمية التى يعتبر شق الطرق جزءًا منها.. إنما هو فقط شخص يعبر عن مزاج نفسى حاد وعواطف مراهقة ورغبة فى أن يكون بلده أفضل أو أن يثبت أنه كمراهق أفضل من الكبار.. هكذا.. ودون معرفة بالواقع أو دراسة له.. الأمثلة فى هذا المجال كثيرة.. فإذا قلت للمراهق مثلًا إننا بإذن الله سنصبح أفضل فى ٢٠٣٠، قال لك ولماذا لا نصبح أفضل فى الشهر المقبل؟، وإذا قلت له إن نابليون مثلًا قائد عظيم، قال لك إنه لا يساوى شيئًا أمام الإسكندر الأكبر! وإذا قلت له إن الولايات المتحدة أكبر دولة فى العالم، قال لك إن فيها مليون مشرد وهذا دليل تخلفها.. وإذا قلت له إن السويد بها أعلى معدل رفاهية فى العالم، قال لك إن حكومتها فاشلة ونسبة الانتحار العالية تدل على ذلك.. هو شخص تحكمه عواطفه.. ويبحث عن عالم مثالى، ويعرض عدم قدرته على الإنجاز بالمزايدة على إنجازات الآخرين.. خبرته بالواقع ضعيفة.. ومعرفته بالعالم ضعيفة.. وتراثه السياسى مستقى من كتاب المحفوظات والمطالعة الرشيدة.. خلطة من الشعارات الرومانسية والدينية والقومية والأمنيات الطيبة لكنها لا علاقة لها بالواقع ولا تغيره ولا تدرك تحدياته.. للمراهقة السياسية أمثلة كثيرة ودفعنا لها فى بعض الأحيان أثمانًا فادحة.. ما زالت مصر تتحمل آثارها حتى الآن.. «النضج السياسى» هو نقيض «المراهقة السياسية»، ونحن نريد أن نقيم حوارًا على أساس النضج السياسى.. نطرح على بعضنا البعض مطالب منطقية ومقبولة ونطرح مبررات لهذه المطالب تربطها بالصالح العام ومصلحة المجموع.. لا فائدة لأن تذهب للحوار لتقول إن كل ما حدث كان خطأ وإننا لا بد أن نهدم كل شىء ونبنيه من جديد.. هذا دليل عدم جدية.. وعدم نضج.. وعدم إمكانية للحوار من الأساس.. نريد أن نرسل «الناضجين» ليجلسوا على مائدة الحوار وأن نصبر على «المراهقين» بضع سنوات ريثما يتخطون هذه المرحلة النفسية الحرجة التى تفرض على المراهق نوعًا من عدم الاستقرار.. معذور، فهو ما زال فى المرحلة الحرجة.. مجرد مراهق.