مسرد تاريخي يرويه مجيد طوبيا
«واختلطت مياه القناة» بالعرق والدم والثورة.. مجيد طوبيا يروي تاريخ قناة السويس
في عددها الصادر بتاريخ الخميس الخامس من يونيو 1975، حمل العدد 1013 من مجلة “صباح الخير”، تحقيقا صحفيا بقلم الكاتب الروائي مجيد طوبيا الذي غادر عالمنا مطلع الشهر الماضي. حمل التحقيق عنوان “واختلطت مياه القناة”.. بالعرق والدم والثورة. وفيه يبحر “طوبيا” في تاريخ قناة السويس منذ كانت فكرة حتى صارت واقعا ملموسا يربط الشرق بالغرب، ومياه البحرين الأحمر والمتوسط.
يستهل “طوبيا” تحقيقه عن قناة السويس، بتوطئة عن تاريخ قناة السويس في العصر الحديث: عندما التقت مياه البحر الأحمر بمياه البحر الأبيض لأول مرة عام 1869 كانت مصر قد دفعت ثمنا لهذه اللحظة مائة ألف شهيد من الفلاحين المصريين الذين حفروا القناة تحت شواظ اللهيب وسياط المستعمرين، وكانت أيضا قد تكبدت خلال عشرة أعوام قاسية كل تكاليف الحفر، وتراكمت الديون، وبدأت تفقد استقلالها.
ولكن المياه التي جرت فوق أرض المأساة لم تكن كافية لكي تمحو آثار الماضي الأليم، فقد كانت القناة ومصر، في تلك اللحظة، علي بداية طريق شاق من المؤامرات والدسائس والغارات الدولية المسلحة.
تاريخ مشرف عظيم وقفت مصر تدافع فيه عن عرق أبنائها وعن سلامة أهدافها، خلال أكثر من مائة عام، تاريخ تضعه “صباح الخير” أمام الجيل الجديد ليعرف القصة من البداية.
- حكاية أولية
وبأسلوب أدبي حكائي شيق يمضي مجيد طوبيا في سرد حكاية قناة السويس: يحكي أنه في سالف العصر والأوان، وبالتحديد في القرن الماضي ــ القرن 19 ــ من الزمان، وبعد أن استفاقت أوروبا من ظلمات الجهل وحررت عقلها من سطوة تجار الدين، يحكي أن علماء الفرنجة كانوا قد نشطوا يدرسون الإنسان والأرض والسماء، لدرجة أن أحد هؤلاء اكتشف أن للبخار قوة، وأن هذه القوة يمكنها أن تدير آلة، وأن هذه الألة يمكنها أن تنتج سلعا وأن تحرك القطارات وتسير السفن، فحدثت بذلك الثورة الصناعية، التي كانت طفرة للإنسان لم تكن معروفة من قبل، وقوة عجيبة تضاف إليه.
ويحكي أيضا أن تلك الجزر الجرداء المسماة انجلترا كانت هي أسبق الدول في هذا المضمار مما ضاعف من إنتاجها السلعي بحيث فاق بكثير متطلبات سوقها المحلي، فصار لزاما عليها أن تبحث عن أسواق أجنبية تبيع لها الفائض وتستجلب منها الخامات الأولية اللازمة لصناعتها.
ومن أجل هذا الهدف خرجت بوارج الإنجليز إلي كل بحر وكل محيط، لتلقي مراسيها علي شواطئ الدول الأمنة والنائمة في نعاس التخلف، يبدأ الأمر بالتجارة البرئية وينتهي بالاستعمار الصريح، فتسللت إلي شبه القارة الهندية بشركة اسمها شركة الهند الشرقية، ثم حولتها بسطوة السلاح إلي درة المستعمرات في تاج الإمبراطورية البريطانية، ويحكي أيضا أن الذئب الإنجليزي نظر إلي الشرق الأوسط فرأي مصر واقعة علي طريقه المؤدي إلي درته الهندية، ورأها تزرع القطن اللازم لمصانع نسيجه، فطمع فيها وحدث نفسه قائلا: "هذه ولاية عثمانية، تدفع الجزية للسلطان التركي المهيمن باسم الدين، مع أنه يقتل رجالها ويسبي نسائها وصبيانها، وهو في الحقيقة لم يعد سوي عقل مشلول، لم يبزغ له علم مثل علمي ولم تتطور له صناعة مثل صناعتي، فهو ذئب مريض واهن القوي متساقط الأنياب وقد قربت نهايته.
ويحكي أيضا أن نابليون الفرنسي كان قد جاء قبل ذلك إلي مصر يريد غزوها، وأنه كان يفكر في حفر قناة السويس كي يكون طريقه إلي الهند سهلا ميسورا، وكان يطمع في التهامها، ولكن مقاومة أهل مصر ومعارضة انجلترا أدتا إلي إحباط مخططاته، فانسحب بعد أن تنبه الإنجليز إلي نواياه، فسارعوا إلي احتلال جزر البحرين في الخليج العربي، وعدن، ومسقط، والكويت، وقطر، وشواطئ عمان فيما أسموه بالمحميات البريطانية عند مدخل البحر الأحمر، ثم راحوا يتحينون الفرص للانقضاض علي مصر.