الأبنودي «مؤذنا».. أغرب ذكريات طفولة المثقفين في رمضان
يحمل شهر رمضان المبارك ذكريات عديدة مع عدد كبير من الكتاب والمثقفين الراحلين، ومنهم من يعتبرونه شهرهم المفضل، لما تربطهم به من طقوس وحكايات سردوها بأنفسهم في سيرهم الذاتية ومقالاتهم وحواراتهم الصحفية والإذاعية، لتظل مادة يمكننا اللجوء إليها والتعرف على عالمهم.
وهذا ما يرصده "الدستور" خلال السطور التالية؛ إذ كان شهر رمضان بالنسبة للشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي عظيم الشأن، إذ كان يقضيه في اللهو واللعب مع أطفال قريته أبنود التابعة لمحافظة قنا في صعيد مصر، وتحديدا بساحة مسجد قديم دون مئذنة؛ رغم ارتفاع درجة الحرارة.
"عبر كل هذا الزمان لم أسعد إلا برمضان في طفولتي، وهو صاحب الأثر الأكبر في حياتي للآن" هكذا تحدث الأبنودي عن ذكرياته مع شهر رمضان المبارك، وكان يقوم بدور أجهزة الإعلام في إخبار أهل القرية لصلاة المغرب بدلا من المؤذن الذي فقد صوته في حادث، فلم يكن هناك راديو ولا تلفزيون.
في مقال للكاتب والأديب عبد الرحمن الشرقاوي بمجلة "العربي" بعددها رقم 319 والصادر بتاريخ يونيو 1985 تحدث عن ذكرياته مع شهر رمضان المبارك في قرية الدلاتون التابعة لمحافظة المنوفية حيث ولد فيها، قائلا: من تقاليد القرية كلما اقترب شهر رمضان أن تفض الخصومات، وأن يتصالح الناس، مهما يكن بينهم من ثارات وضغائن، وكان أفضل الناس هو الذي يسعى إلى أخيه بعد ثبوت رؤية الهلال، فيهنئه بمقدم الشهر المبارك، أو يصالحه بالمصافحة قائلا: رمضان كريم.
أشار الشرقاوي إلى السمر في ليالي رمضان، واصفا إياه بأنه كان "سمرا خصبا مثقفا"، مستطردا: فبعد أن يفرغ القارئ من تلاوة ما تيسر له من القرآن، وفي خلال راحته استعدادا لاستكمال التلاوة، كانت الأحاديث تدور حول تفسير ما تلاه من القرآن الكريم، وتذكر بعض الأحاديث الشريفة، وبعض طرائف الحكمة من عيون التراث، وبعض طرائف الحكمة من عيون التراث، ثم يتذكرون حاجة أصحاب الحاجة، ويتفقون على حل المشاكل.
كان عبد الرحمن الشرقاوي كأطفال قريته، يشعر إلى جوار الفرحة بطمأنينة غريبة، ذلك أنهم سمعوا من الكبار الحديث الشريف الذي يعلمهم أن الشياطين تصفد إذا جاء الشهر المبارك، وأن للصدقة في هذا الشهر مكانة خاصة، من أجل ذلك كانوا يجودون على زملائهم الفقراء بكل ما يأخذونه من آبائهم من "مصروف" شخصي.
وكان أيضا يتجول مع أطفال القرية في الليل بلا خوف من العفاريت أو الجنيات، ولقد يقتحمون الأماكن التي تثور حولها حكايات العفاريت والجنيات متحدين، مطمئنين إلى أنها لن تظهر لهم، فلا شيء يمكن أن يؤذيهم في ليالي رمضان.. فقد سلسلت الشياطين.
كان للأديب الراحل نجيب محفوظ طقوس وذكريات مع شهر رمضان، فقد كان يقضي أوقاته في الاستمتاع بروحانيات الشهر الكريم، والقراءة في السير والتراجم عن الدول الإسلامية، والشعر الصوفي والفلسفة، وكان لم يفضل الكتابة في شهر رمضان.
أما عن فترة طفولته؛ فسرد ذكرياته مع الشهر المبارك في أحد حواراته، فكان يقضيه في اللهو والمرح مع أصدقائه في الشارع بمنطقة الجمالية حاملين الفوانيس بألوانها الزاهية، مرددين أغاني رمضان، وينضمون لحلقات الذكر والمديح في النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.
ورغم انتقال أسرته إلى شارع رضوان شكري بحي العباسية، إلا أنه ظل متمسكا بعلاقته بمنطقة الجمالية لما له من ذكريات عديدة بها، واعتاد على زيارتها بصحبة والدته في شهر رمضان، زيارة الحسين وأولياء الله الصالحين، وأحيانا يتجه إلى الحسين مع أصدقائه مشيا على الأقدام.
في كتابه "من فيض الكريم" تحدث الروائي الراحل يحيى حقي عن القاهرة في ليلة الرؤية، قائلا: ولا نذهب إلى بيوتنا إلا بعد أن نسمع المدفع المؤذن بثبوت الرؤية، وإلا بعد أن نرى المآذن كلها قد أضيئت.. ما أجمل القاهرة في تلك الليلة، المآذن زينة وفرح وابتهال يشرف عليها من مسجد القلعة مئذنتان نحيفتان متوجتان بالنور. ويطلب كل صبى من أهله أن يشتروا له فانوسا ملونا يسرح ويمرح به فى الشوارع بعد الغروب وهو ينشد أغنية "وحوى يا وحوي.. إيوحا".
"من الكنوز المغلقة عليها خزانتي، هيهات للأيام أن تبددها، هذا الشعور الذى كان يغمر قلبى وأنا صبى حين تقدم علينا ليلة الرؤية مقدم حورية من الجنة فى زى عروس يوم زفافها، تلعلط بالحلى والزواق وتزيد عليها بأن النور رغم بهمة الليل يفج حولها وبين قدميها.. شعور لذيذ لأنه عجيب يختلط فيه الفرح بالخشوع ونغمة الاعتراف بالعجز.. كنا نعلم طوال العام أن أقدامنا تسعى إليها ونعرف من سابق كل ملامحها لكنها حين تقابلنا وجها لوجه نجد سحرها جديدا كأنما نراه لأول مرة".. بهذه الكلمات تحدث يحيى حقي عن ذكرياته مع شهر الصيام.
ويضيف: نصبح فى يوم ليس فيه للناس إلا سؤال واحد يشغلهم عن كل هم آخر.. أفطور من غد أم صيام، الانتباه مركز على المحكمة الشرعية فى سراى رياض باشا فى شارع نور الظلام، حيث يجلس قاضى الإسلام وعلى باب المحكمة خلق غفير ستعلم نبأه بعد حين.