آخر الحرافيش لـ«الدستور»: نجيب محفوظ كان أقلنا كلاما.. وكنت أعرف إعجابه بعمل من صوته
الكثير من الأدباء والكتّاب كانوا رفاق جلسات نجيب محفوظ، ومنهم حسين عبد الجواد، وهو الذى قضى 8 سنوات في صحبة الأديب الكبير وجلساته ما بين فندق شيبرد وفندق سوفيتيل، وظل طوال هذه الأعوام يلتقي أديب نوبل مرتين أسبوعيا.
"الدستور" التقت حسين عبد الجواد وكان هذا الحوار..
كيف بدأت جلساتك مع نجيب محفوظ وانضمامك للحرافيش؟
الحرافيش تاريخ قديم موجود إلى حادث 64 وهو الاعتداء على نجيب محفوظ، وبعد الحادث ظل محفوظ لمدة شهرين في المستشفى وشهر في البيت ورتبوا له أن يخرج يوما في الأسبوع يقابل بعض الأصدقاء، وأنا عرفته عام 1998 كنت أتابعه وأقرأ ما يكتبه في الجرائد وما يقوله في الإذاعة وبعد الحادث بدأ يذهب لبعض الأماكن بصحبة حارس شخصي، كان محفوظ يأتي في سيارة واحد من أصدقائه وسيارة لبوليس تتبعه كظله، وظل هذا الأمر حتى توفاه الله، وأنا ظللت لمدة طويلة أنوي الذهاب إليه ولكن لم تأت فرصة إلا في عام 1998 كنت قد عرفت أنه يجلس في فندق شيبرد كل يوم أحد من الساعة السادسة والنصف، وعزمت الأمر وذهبت إلى فندق شيبرد وسلمت عليه، وكان يرحب بكل الناس ولم يكن يرفض أحدا.
كنت قد ذهبت لأسمع نجيب محفوظ، لكنني فوجئت أنه أقل الناس كلاما، الجميع يتحدثون ونجيب يسمعهم، وكان يعلق على أحاديثهم لكنه كان قليل الكلام، كانوا يقرأون أعمالهم له، قصص قصيرة أو قصائد شعر، وفي هذا الوقت كان نظره قد ضعف ولا يستطيع القراءة، فكان يعتمد علينا في تلخيص المقالات وأحاديث حول الكتب أو الأفلام، وهناك وقت كان يحب أن يقرأ له كتب معينة مثل كتاب رجاء النقاش عن نجيب محفوظ، وكان يحب الاستماع لهذا الكتاب فكان نعيم صبري وزكي سالم يقرآن له منه في أول الجلسة، بعدها بدأت أقرأ له ما أكتب مثل القصص القصيرة وشعر العامية، وهو في حديث له كان يقول ان اعتماده الأساسي في القراءة على أصدقائه في مختلف أيام الأسبوع، وتحمست بشدة لأن أقرأ له، وكت أقوم بعمل ملخصات فكان يعجبه أسلوبي واختياراتي.
هل ظللت لثمان سنوات تلتقي محفوظ مرتين أسبوعيا؟
خلال الثمان سنوات كنت أذهب يومين في الأسبوع، يوم الأحد في شيبرد والأربعاء في سوفيتيل المعادي، الأربع سنوات الأولى من الثمانية كنت أراه مرتين في الأسبوع، وحدثت بعض الأمور وعلى إثرها اقتصر حضوري على جلسة المعادي في آخر ثلاث سنوات، ومحفوظ في هذه الفترة كان يستلهم أحلامه ويقوم بعمل قصص قصيرة منها وهذا الشكل من الكتابة كان في عام 1999، وقلت في نفسي أقوم بمثل هذا العمل، فبدأت أكتب احلامي وأقرأها له وكانت تسعده كثيرا.
لك كتاب "من دفتر الأحلام"، هل جاء هذا الكتاب بعد كتابة محفوظ لأحلامه؟
أنا لدي ثلاث كتب دونت فيها أحلامي، فحين رأيت نجيب محفوظ يدون أحلامه، قررت أن أكتب أحلامي لأكتبها في قصص قصيرة، ومن هنا صدرت هذه الكتب، هي أحلامي أنا بعيدا عن تجربة نجيب محفوظ.
خلال هذه الثمان سنوات بالتأكيد هناك الكثير من المواقف التي تتذكرها من جلسات نجيب محفوظ، ما أهم هذه المواقف؟
كانت هناك العديد من المواقف جمعتنا ففي إحدى المرات قلت له إن القصص والشعر التي أكتبها اكتبها لكي أقراها لك، فقال لي هذا شعور طيب، فقلت له إن الشعور الأجمل أن أجدك تسمعني باستمرار، ومنذ وفاة محفوظ ليس هناك أحد يستمع ويتذوق بأسلوبه، كان يسمعنا بدقة.
وهناك شيء مهم قاله حين جاءت صحفية في الأهرام لتجري معه حوارا، وفي منتصف الحوار قالت له: "كيف تتعامل مع تلاميذك من الحرافيش؟"، فكان رد محفوظ عليها: “هؤلاء ليسوا تلاميذي.. هؤلاء أصدقائي”.
وأذكر ذات مرة في لقاء الأحد بفندق شيبرد ولأنه في وسط القاهرة فكان الحضور كبيرا، وكانت تحدث مزايدات من بعضهم ضد بعض، فنجيب كان مثالا يستجيب لكل الناس، ومجامل ولو أن هناك شخصا غاب يسأل عنه ويطلب من الجالسين السؤال عنه أو الاتصال به، وكان سريع البديهة وله تعليقات ساخرة، ففي إحدى المرات كان أحدهم يتحدث عن انحراف رجال الدين في كل الأديان واستغلال بعضهم للدين وسرقة النقود من الناس، وهنا التفت نجيب إليهم وقال: "هنا السرقة تصبح هي المقدسة".
لماذا لم تكتب فحوى جلساتك مع نجيب محفوظ في كتب كما فعل الكثيرين من رواد جلساته؟
كنت مشغولا بأمرين الأول هو أنني قرات في حوار معه في بداية لقائي معه وكان يقول إنه ليس لديه وسيلة للقراءة والاطلاع إلا أصدقائه، فأنا شعرت أنها مشكلة كبيرة يعاني منها، ولأنني كنت أقرأ بنهم في ذلك الوقت، فتصورت وعرفت مدى معاناته من حرمانه من القراءة، فلذلك تفانيت في أن أختار له كتبا جيدة وأقرأها بإمعان وتركيز وأقوم بعمل ملخص لها، وهذا أخذ مني وقتا طويلا، وكان نجيب يقدرها، ودائما يوجه لي الشكر.
الأمر الآخر أنني كنت مهتما أن أقرأ القصص والأشعار التي أكتبها فحين أشعر بإعجابه من شيء أفكر فيها وأعرف ما الذي أعجبه وأقوم بعمل شيء على غرارها، وفي مرة قرأت له قصيدة بالعامية، وكانت له نظرية في النقد أن يقول جميل، جميلة، جذابة، وكل كلمة بدرجة انفعال معينة، ومن خلال الانفعال نعرف مدى إعجابه بالعمل، وكان يقول لي على ما أكتبه حلو، جميل، جذاب، وهكذا، وذات مرة قرأت له قصيدة عامية فلم يقل شيئا، فحين رجعت فكرت أنه لم يقل شيئا، وقلت إنها لم تعجبه، وظللت طوال الأسبوع أقرأ فيها لأعرف ما الذي لم يعجبه، فقلت أسأله، وحين قابلته قلت له: "يا نجيب بيه أنا الأسبوع اللي فات قرأت لك قصيدة عامية، ولم تقل شيئا والظاهر أنها لم تعجبك، فقال لي كل ما تكتبه بالعامية يعجبني"، كان إنسانا ذواقا ومجاملا ويحب أن يسمع كثيرا وكان هذا بديلا لضعف بصره.
ماذا عن الجلسات في شهر رمضان وطقوسه في هذا الشهر الكريم مع الحرافيش؟
هو كان منتظما جدا في حضور الأمسيات، كنوع من الالتزام لأنه يعلم أن هناك من سيأتون للجلوس معه، ولا بد أن يكون متواجدا، كان حريصا على التواجد بشكل دائم في جميع الأيام بلا استثناء، وفي رمضان كان الاجتماع يتأخر ساعة، لكي يحضر بعد الإفطار ويمنح الجميع فرصة للإفطار والتحرك، وجوده كان دائما وثابتا سواء كان يوم العيد أو الوقفة وليس هناك أي تغيير في البرنامج، كان مضبوطا كما الساعة، كان حضوره في موعده إلا في حالات قليلة حين يصاب بوعكة مثل نزلة برد أو غيرها.
هل كنتم تزورونه في منزله في هذا الوعكات الصحية؟
حين يصاب بأي وعكة كان محفوظ يقول يقول: "لا أزور ولا أزار"، لا يذهب لأحد في بيته ولا يذهب له أحد إلا في أضيق نطاق لأن البيت في رؤيته للأسرة، وكان في كل أيام الأسبوع يخرج ليذهب إلى مكان من الأماكن مثل شيبرد أو ميناتل أو فرح بوت أو فلفلة، أو بيت يحيى الرخاوي يوم الجمعة في المقطم، ولم نكن كلنا نذهب له في تلك الأماكن كان له في كل يوم مكان وكل الأشخاص يختلفون من مكان إلى مكان، وكل مكان له شخوصه وناسه، يوم السبت يظل في البيت يقابل الصحفيين وسلماوي لكي يعطيه ما سوف ينشر في الأهرام.
هل كان يكتب على القصائد أو القصص التي يقرأها رواد الجلسات له؟
كانت قدرة محفوظ على الكتابة ضعيفة في أعقاب الحادث لدرجة أنه في أعقاب الحادث مباشرة لم يكن قادرا على الكتابة لأن الطعنة التي تلقاها في رقبته أثرت على الأوتار التي تصل ليده، وكان يتلقى جلسات علاج طبيعي وبعدها بدأ يتمرن على الكتابة مثل طفل صغير وظل في مرحلة طويلة إلى أن نجح في كتابة أحلامه، وكانت تنشر في نصف الدنيا بخط يده وكانت قراءته صعبة لكنها قدرته على الكتابة في ذلك الوقت.
هل هناك أي طقوس لنجيب محفوظ في جلساته سواء في شيبرد أو سوفيتيل مع الزوار الجدد؟
كان محفوظ اجتماعيا يرحب بكل الناس وكان هناك تقليد نتبعه، كانت لديه سماعة على أذنه اليسرى يسمع منها، وكان التقليد أن واحدا منا يجلس بجواره يكلمه، ويكون هناك حوار مفتوح من الجالسين، يتحدثون وهناك من ينقل له الكلام والآراء.
وأريد أن أقول في النهاية إن جلسات نجيب محفوظ في شيبرد كان قد دونها الكاتب الصحفي إبراهيم عبد العزيز عن دار بتانة وفيها غطى عبد العزيز جزءا كبيرا من جلسات نجيب محفوظ، ودون ما يحدث في الجلسات بشكل جيد جدا، وغطى لحواراتي وكلامي مع أديب نوبل.