يحيى الطاهر عبدالله.. أمير القصة القصيرة يلقي حكاياته شفاهةً
يحيى الطاهر عبدالله، والذي غادر عالمنا في مثل هذا اليوم من العام ١٩٨٩، إثر حادث تصادم سيارة على طريق القاهرة الواحات، هو أمير القصة القصيرة المصرية، وهو كما نعاه مجايله أمل دنقل فكتب عنه قصيدته المعنونة بـ "الجنوبي" والتي نشرها دنقل في ديوانه "أوراق الغرفة 8"، مخاطبا فيها "أسماء" ابنة صديق عمره وصباه يحيي الطاهر عبدالله، فوصفه بأنه: "ليت أسماء تعرف أن أباها صعد..لم يمت..هل يموت الذي كان يحيا..كأن الحياة أبد..وكأن الشراب نفد..وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد..عاش منتصبا، بينما ينحني القلب يبحث عما فقد".
وعن إبداع يحيي الطاهر عبد الله يقول الناقد الدكتور جابر عصفور: “ظل يحيي الطاهر عبد الله يعنف صديقيه ”أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي"، في إبداعهما الذي كانا يعرضانه عليه بوصفه ناقدهما الأول.
وظل الأمر على هذا الحال إلى أن انتقل عبد الرحمن إلى القاهرة سنة ١٩٦٣، ولحق به يحيي بعد سنة، مفاجئا صديقيه القديمين بأنه اختار كتابة القصة القصيرة لا القصيدة مثلهما، لكنه استبقى من كليهما صفتي الحفظ والإنشاد، فكان لا يكتب قصصه القصيرة علي ورق، وإنما في رأسه، ويحفظها ليقرأها علي الآخرين من الذاكرة دون نسيان شئ، ودون أن يتغير في القصة حرف عبر تكرار الحكي والإعادة، كان ظاهرة فريدة في ذلك، فلم أر قبله ولا بعده كاتب قصة قصيرة يحفظ الأعمال الإبداعية ويحكيها شفاهة للآخرين، ولا يسجلها على الورق إلا ليدفع بها إلى النشر في جريدة أو مجلة أو كتاب.
هكذا قدم يوسف إدريس "يحيى" إلى الحركة الأدبية
واستمع الدكتور يوسف إدريس، إلى إحدي قصص يحيى الطاهر عبد الله في “مقهى ريش”، الذي ظل لسنوات ملتقي كتاب الستينيات، فقدمه في مجلة “الكاتب” التي كانت تصدر في ذلك الوقت، كما قدمه عبد الفتاح الجمل في الملحق الأدبي لجريدة “المساء القاهرية”.
وأخذت الطليعة الثقافية تلتفت إلى كتاباته، وتجد فيها أفقا إبداعيا مغايرا في تفرده واختلافه، وظل يحيي يقرأ على أقرانه قصصه في مقهي ريش، الذي نقل إليه نجيب محفوظ لقاءه الأسبوعي، وافتتح فيه حوارا مفتوحا مع أبناء الجيل الجديد الذين بدأت أعمالهم الإبداعية تلفت الانتباه إليها، على نحو متصاعد، منذ مطلع الستينيات، وهو الحوار الذي لم يتوقف، ولم يخل من حدة بين الأجيال السابقة التي ينتسب إليها نجيب محفوظ، ويحيي حقي، ويوسف الشاروني، ويوسف إدريس، ومحمد عبد الحليم عبد الله ورشاد رشدي وغيرهم، على اختلاف أطيافهم، والجيل المتمرد الذي انطوى على شعور مرهف بكارثة مقبلة، ونفور حدي من عوالم الآباء التي كان لا بد من التمرد عليها.
يحيى الطاهر عبدالله والتمرد على الكتابة الموروثة
ويتابع دكتور جابر عصفور، محللا أدب ومسيرة إبداع يحيي الطاهر عبد الله: شهدت السبعينيات تصدر كتاب الستينيات للمشهد الثقافي، وذلك بعد أن اقترنت تسمية الجيل بسنوات الجمر التي شهدت انطلاق حركة السلام المعادية للحرب الفيتنامية بالولايات المتحدة في مايو ١٩٦٨، وثورة الطلاب والعمال في فرنسا في نوفمبر ١٩٦٨، والثورة العارمة التي احتدمت في وجدان الشباب العربي الغاضب علي الأوضاع التي أدت إلي هزيمة ١٩٦٧، وهي الثورة التي وجدت تجسدها الإبداعي في كتابة جيل الستينيات في أكثر من قطر عربي.
وانتسب يحيي الطاهر عبد الله إلي هذا الجيل الغاضب الذي تمرد على أشكال الكتابة القائمة والموروثة، مستعينا بالتجريب الذي اقترن بالبحث عن أشكال جديدة وخرائط إبداعية مختلفة، وذلك بهدف مجاوزة الثنائية التقليدية بين الأصالة والمعاصرة، وبين الطليعة المهمشة والجماهير العريضة التي حلمت الطليعة بتحريكها.
وأتصور أن هذا هو السبب الذي جعل يحيي الطاهر عبد الله يختار الحكي الشفاهي لتوصيل قصصه التي احتفت بها الحياة الثقافية.
وكان يبرر محاولته نقل فن الكتابة إلي فن القول بأنها تبحث عن قاسم مشترك بينه والمجتمع، مؤكدا في حديث صحفي له: إنه إذا قال وأجاد القول سيجد من يسمعه، ومن يتأثر به، فهو يتعمد عدم الكتابة لأن أمته لا تقرأ. وحين أقول يكثر مستمعي لأن الناس ليسوا صما"، ولذلك كان يعلن، دائما، عن عدم إيمانه بمخاطبة المثقفين، أو الاقتصار عليهم، فما معنى أن يكتب برجوازي صغير لحفنة صغيرة من أمثاله.