بين الواقع والخيال 5
الإعلان الدستورى.. لقمة السيطرة التى وقفت فى «زور» الإخوان
خطورة مسلسل الاختيار أنه يكشف أخطاء الإخوان التى قادتهم لمصيرهم ويواجههم بحقيقة ما جرى
أعداء أى شعب يبدأون من نقطة إقناعه أنه ليس فى الوضع الطبيعى وخطورة الاختيار أنه يكشف للناس أن وضع مصر حاليًا هو الوضع الطبيعى جدًا
إعلان مرسى الدستورى كان بداية طريق الانقلاب على الدولة الذى سار فيه الإخوان وقادهم للسجون بتهمة الخيانة والإرهاب
المسلسل يكشف أخطاء قادة الجماعة أمام قواعدها وهذا هو ما يشعرهم بخطورته
أخطر ما فى مسلسل «الاختيار» أنه يقول لك لماذا جرى ما جرى.. يضع أمامك المقدمات التى كان لا بد أن تؤدى للنتائج.. يجعلك تقتنع أن مصر الآن فى الوضع الطبيعى لها، والذى تحتمه ضرورات التاريخ والسياسة والمنطق.. هذا مؤلم جدًا للإخوان.. أعداء أى شعب بشكل عام يبدأون من نقطة انطلاق وهى إقناع الناس أن الوضع ليس طبيعيًا.. أن فيه خطأ ما لا بد من إصلاحه.. وأن الإصلاح قد يكون عن طريق الإرهاب أو التخريب ما دامت هناك قوة تحمى هذا الوضع، أو ما دام يتمتع بشرعية.. هذه هى أهمية حلقات الاختيار التاريخية.. إنها تصنع وعى الناس بما كان وترصد أخطاء الإخوان التى قادتهم إلى ما هم فيه وإلى ما سيكونون عليه.. والمؤسف أنهم لم يدفعوا الثمن وحدهم، ولكن دفعته مصر كلها عبر مئات الشهداء وأنهار من العرق ومليارات من الجنيهات راحت فى معركة إخضاع الإرهاب.. وهو ما كان يمكن تجنبه لو تحلى الإخوان ببعض العقل وبنرجسية أقل وبجشع أقل وبجهل أقل.. لكنها عادتهم ولن يشتروها.. فالمثل يقول إن مات الزمار تلعب أصابعه.. والواقع يقول إن الجماعة التكفيرية تظل عقيدتها كذلك حتى لو أعلنت توبتها عن الإرهاب، والحقيقة أن الإخوان هى أم الجماعات التكفيرية فى العالم.. وقد أعلنت توبتها عن الإرهاب وهى تتأهل للعب دور سياسى جديد فى مصر فى بداية السبعينيات لكن ما فى القلب ظل فى القلب، وقد توقفت الجماعة عن إصدار فتاوى التكفير بشكل علنى لكنها ظلت تنظر لكل خلاف معها على أنه كفر.. ولكل مختلف معها على أنه مختلف مع الإسلام ففقدت قدرتها على العمل السياسى المرن، وضيعت فرصتها التى حلمت بها طوال ثمانين عامًا من عمرها، وأنزلت نفسها دار البوار.. لقد كان أكبر خطايا الإخوان وهم فى السلطة ذلك الإعلان الدستورى الذى أصدره محمد مرسى فى ٢٢ نوفمبر ٢٠١٢ والذى أراد به أن يلتهم أكبر قطعة ممكنة من كعكة السلطة فوقفت فى زوره وتسببت فى منع الأكسجين عنه وكانت بداية النهاية لموته.. وقد كانت الفكرة فى أن الإخوان قرروا أن يلجأوا لسياسة المغالبة والفتوة وفرض الأمر الواقع.. دون سند من قوة حقيقية ودون أن يكون الواقع مهيأ لما يريدونه.. فكان فشلهم حتميًا بعد أن أدرك الجميع أنهم يقودون مصر لحرب أهلية للمرة الأولى فى تاريخها.. لقد كانت أولى خطايا هذا الإعلان أنه قرر أن يسطوا الإخوان على ثورة يناير وأن يواصلوا سرقتهم لها.. فيتحدثون باسمها ويقولون إنهم قرروا حمايتها، وهكذا تم وضع مادتين فى بداية الإعلان لذر الرماد فى العيون تتحدث إحداهما عن إعادة محاكمة المتهمين بالاعتداء على المتظاهرين والتهرب عن معاشات استثنائية للذين أصيبوا فى أحداث الثورة.. لكن هذا لم يكن الهدف، حيث قرر مرسى فى إعلانه تحصين قراراته من أحكام المحكمة الدستورية العليا، وتحصين مجلس الشورى الإخوانى من الأحكام القضائية، وتحصين الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور أيضًا، ومنحها شهرين آخرين للانتهاء من كتابة الدستور الذى كان الجميع يتخوفون من أن يأتى دستورًا إخوانيًا يرسخ الدولة الدينية.. فضلًا عن أنه منح لنفسه سلطة تعيين النائب العام لكى يواصل ما كان بدأه وفشل فيه مع النائب العام عبدالمجيد محمود.. وقد كان الإعلان صادمًا للمصريين بشكل لا يدركه أحد.. والأكيد أنه كان الخطوة الأولى فى طريق النهاية.. فلم يحدث أن حصن رئيس مصرى قراراته من أحكام القضاء، بل إن نظام الرئيس مبارك فى عز سنوات قوته واستقراره كان يحل مجلس الشعب إذا أوصت أحكام القضاء بحله أو أشارت لبطلان انتخاب عدد كبير من أعضائه.. كان الإعلان يمنح مرسى صلاحيات شبه إلهية لا تستند لقوة واقعية ولا لكفاءة له يعترف بها الناس، أو لشرعية سياسية حقيقية يجمع عليها المصريون، أو لسابق إنجاز يرغم الناس على ابتلاع ما أقدم عليه، وكان رد الفعل الأول لمحاولة الحديث باسم الثورة المصرية هو إقدام القوى السياسية على تشكيل جبهة الإنقاذ، وتظاهر عشرات الآلاف ضد الإعلان الدستورى فى أول جمعة تلت يوم الثلاثاء الذى صدر فيه الإعلان، وفى نفس الوقت كان الإخوان يتظاهرون منذ يوم صدور الإعلان لاستعراض القوة، وهو ما جعل المصريين يقفون ضد بعضهم حرفيًا فى مشهد لم يحدث فى تاريخ مصر الحديث، وبلغت المأساة قمتها عندما حاصر الإخوان مقر المحكمة الدستورية العليا على كورنيش المعادى ليوقفوا سير العمل بها ويمنعوا قضاتها من نظر دعاوى قضائية تطالب بحل مجلس الشورى الذى يسيطر عليه الإخوان.. فى سابقة غريبة من نوعها... وكان أنصار الرئيس يمنعون مؤسسات الدولة، التى يرأسها هو نفسه، من ممارسة عملها.. وكما تكشف الأحداث فى المسلسل فقد كان موقف الجيش المصرى هو تقديم النصح لمرسى ومطالبته بالتأنى فى اتخاذ القرارات ودراستها جيدًا قبل إعلانها والنطق بها.. مع تحذير من خطر الانقسام الذى لاحت نذره فى الشارع المصرى.. وكانت المشكلة التى لا يدركها الإخوان أنفسهم أن مكتب الإرشاد أخذ يغير من طبيعة الجماعة ويحولها من جماعة «إصلاحية» لجماعة «انقلابية»، ووصف الإصلاح هنا لا يُقصد به الصلاح الأخلاقى، ولكن تحقيق الجماعة أهدافها بشكل متدرج وسلمى وهو ما يوصف فى علم السياسة بـ«المنهج الإصلاحى» وقد كان هو منهج الجماعة فى عهد حسن البنا.. الذى قرر أن تغير الجماعة المجتمع بالسيطرة التدريجية على مؤسساته المختلفة، وأن تتوسع فى المدارس والشركات الاقتصادية، وتتسلل للنقابات والأندية والأحزاب.. إلخ، وهو ما نفذه مرشد الجماعة الثالث عمر التلمسانى بنجاح كبير فى السبعينيات والثمانينيات.. وكانت فكرة الجماعة وقتها أن تواصل التسلل لمؤسسات الدولة المختلفة فيصبح القضاة كلهم أو غالبيتهم العظمى من الإخوان فيصدرون أحكامًا فى صالح الجماعة.. ويصبح ضباط الشرطة كلهم من الإخوان فيطوعون القانون لخدمة الجماعة.. وهكذا.. يسيطر الإخوان على قمة الحكم دون مجهود يذكر.. لكن هذا التصور فضلًا عن سذاجته.. يغفل فطرة الله التى فطر الناس عليها فى التنوع، ووجود ملايين المصريين يؤمنون بفكرة الوطن والدولة الوطنية، ووجود مؤسسات وطنية عصية على الاختراق.. والأهم أن الإخوان أنفسهم بقيادة خيرت الشاطر وبديع قرروا الانقلاب على هذا المنهج التدريجى وقيادة الجماعة فى طريق الانقلاب وخطف السلطة والمغالبة عليها والتحالف مع التنظيمات التكفيرية واستخدامها كفزاعة للآخرين وللجيش المصرى إذا لزم الأمر.. وقد كانت هذه القضية مثار خلاف كبير فى صفوف الجماعة بعد هزيمتها ومطاردة أعضائها بتهمة التورط فى الإرهاب، وكانت سببًا فى انشقاق بعض الأعضاء الذين أدركوا أن مجموعة القطبيين فى مكتب الإرشاد هى التى قادت الجماعة لهذا المصير المحتوم، لا أى أحد آخر.. ولعل هذا ما يدفع اللجان الإلكترونية للجماعة وبعض المأجورين لحسابها لترويج سردية المظلومية وإظهار الأمر وكأن مرسى تعرض لغدر شخصى ممن ائتمنه.. وهى قصة ساذجة تصلح حكاية من حكايات المصاطب فى القرى.. لكنها لا تصلح منهجًا فى فهم التاريخ وطريقة سير الأحداث فيه.. المهم أن الإخوان لم يستطيعوا تمرير هذه الخطوة الانقلابية، حيث تصاعدت الأحداث عندما قرر المصريون أن يتظاهروا بعشرات الآلاف أمام قصر الاتحادية، وهو ما جعل الإخوان يشعرون بالخوف لأول مرة، حيث طلب مرسى من الفريق السيسى، وزير الدفاع، أن يتدخل الجيش لكنه رفض وقال إن الجيش لن يتدخل فى صراع سياسى بين المصريين، وهو التوجيه الذى نفذه رئيس سلاح الحرس الجمهورى اللواء محمد زكى الذى قال لمحمد مرسى إن دوره هو حماية القصر الجمهورى وليس مهاجمة المتظاهرين داخله.. وتصاعدت الأحداث فى اليوم التالى حين قررت أعداد من المتظاهرين الاعتصام أمام الاتحادية فهاجمتهم ميليشيات الإخوان واعتدت عليهم بالضرب، وكانت صور الاعتداءات دامية وموجعة للقلب، وكانت الأحداث نفسها نذير خطر كبير.. ولم تكن هذه سوى خطوة جديدة يسير بها الإخوان نحو قدرهم المحتوم.