الاختيار 3.. بين الواقع والخيال
التاريخ الذى يؤلم الإخوان
عجز الإخوان عن مواجهة الحقائق فى المسلسل فتحدثوا عن مدى ملاءمة الفنانين للأدوار وكأنهم نقاد فنيون
لجوء الإخوان للسخرية دليل على عجزهم عن الرد المقنع أو مواجهة الحقيقة على الشاشة
الإخوان يكررون نكتة «أبوالعربى» الذى عجز عن مواجهة حقيقة خيانة زوجته فأخذ يشكك فى إجادة غريمه مهنة الكهربا!
يقول المثل الشعبى إن «السفيه يشتم الباشا» والمعنى أن أى أراجوز.. مهرج يمكنه أن يضلل الناس بطريقة السخرية.. إنه يخاطب فى بعضهم عجزهم.. إحساسهم بالضآلة.. الرغبة الكامنة داخل النفس فى التدمير.. ويدعوهم لحفلة جماعية للمسخرة.. لأن يكونوا صغارًا.. غير جادين ولا محترمين.. إنه يدعوهم للهروب من الواقع الذى يؤلمهم ومن الحقيقة التى توجعهم وتذكرهم بفشلهم.. وسوء تصرفهم أو سوء اختيارهم.. إن أى «أراجوز» يمكنه أن يثير ضحكات من يلتفون حوله فى سوق القرية.. لكنه يبقى فى النهاية مجرد أراجوز أو قرة جوز.. ضئيل الشأن.. عديم الذكر ينفض حوله الناس بعد أن يدركوا أنه مجرد دمية خشبية ينطق بصوت غيره وتحركه يد خفية من وراء ساتر.. إن ثمنه قروش قليلة أو ملاليم.. يحصل عليها فى مقابل بذاءاته.. ثم ينفض السامر عن لا شىء.. لقد قفزت هذه المعانى إلى ذهنى وأنا أتابع بعض ردود الفعل من الإخوان على مسلسل الاختيار.. الذى نتفق جميعًا على أنه ليس مجرد مسلسل ولكنه تاريخ مكتوب على الشاشة.. وهو فريد لأن الشاشة فيه سبقت الأوراق المكتوبة.. حيث جرى العرف أن يكتب المؤرخون التاريخ ويحوله صناع الدراما لمشاهد مرئية.. لكن فى هذه المرة حدث العكس وداهمت الأسرار المتفرجين على الشاشة.. وهى أسرار صادمة وطازجة وبنار الفرن، كما يقول المثل السائر.. والحقيقة أن التاريخ ليس علمًا مجردًا ولكنه وثيق الصلة بالحاضر والمستقبل بقدر ما هو وثيق الصلة بالماضى.. لذلك يصيغ التاريخ وعينا وطريقة تفكيرنا ونظرتنا للأمور.. ولذلك قال الأستاذ أحمد بهاء الدين إن الإنسان حيوان له تاريخ.. فهو الكائن الوحيد الذى يحفظ ماضيه ليستفيد به فى مستقبله.. ومنذ زمن طويل والإخوان يزيفون التاريخ.. يصيغونه على أنه مأساة ومؤامرنه وملحمة كبرى تعرضوا فيها للاضطهاد والتعذيب والتنكيل وكأنهم لم يكونوا مجرمين ومتآمرين وأدوات فى يد دول معادية لهذا البلد.. أو وكأنهم ملائكة لا يخطئون ولا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا أرجلهم، وكأنهم ليسوا طلاب دنيا تحت ستار الدين، وطلاب ثروة تحت ستار الزهد، وطلاب سلطة تحت ستار الديمقراطية، وطلاب حكم دينى تحت ستار دستور مدنى.. إنهم يكذبون الكذبة ويصدقها بعضهم أحيانًا، ويتظاهر البعض الآخر بتصديقها فى أحيان أخرى.. وقد كانت صدمة الحقائق فى المسلسل الوثيقة أكبر من قدرة الإخوان على الاستيعاب.. فالمشاهد المصورة للإخوان فى اجتماعات رسمية مشاهد فاضحة، فنائب المرشد يقدم نفسه للمسئول الذى يجلس معه على أنه مخبر كفء.. يزرع الجواسيس فى أوساط السلفيين ويبلغ الأمن عنهم.. والمرشد يبلغ عن عبدالمنعم أبوالفتوح القيادى فى الجماعة ويتبرأ منه.. وأبوالفتوح نفسه يحذر المسئول الذى يجلس معه من سيطرة الإخوان ويعرض التحالف مع الجيش ضدهم! وهى مشاهد قد لا تحتوى على أدلة تدين المتحدثين فيها جنائيًا.. لكنها تكشف عن أنهم طلاب سلطة وأنهم شخصيات رخيصة.. محدودة التفكير.. عديمة الخلق.. لقد شكلت هذه المشاهد صدمة للإخوان.. ولجانهم الإلكترونية وبعض الأجراء لديهم.. فكان أن تركوا الموضوع الأصلى وتفرغوا للتفاهات وهو ما يذكرنى بنكتة شهيرة عن أبوالعربى البورسعيدى الذى عجز عن مواجهة حقيقة أن زوجته تخونه مع كهربائى فأخذ يؤكد لمن أخبره بأنه لا كهربائى ولا بيفهم فى الكهربا!! وهكذا ترك الإخوان وأجراؤهم الحقيقة التى صفعتهم على أقفيتهم وتفرغوا للحديث عن الفنان ياسر جلال وملاءمته للدور من عدمه.. وعن حبكة السيناريو.. وجودة الإخراج.. وكأنهم أحرص من الجهة المنتجة على جودة العمل!! أو وكأنهم نقاد موضوعيون تهمهم المصلحة العامة! أو وكأنهم وطنيون مخلصون يهمهم الصالح العام.. وهى لعبة شهيرة يلعبها بعض الجواسيس والمندسين بين الناس الطيبين.. وقد ابتلعها بعض المصريين فى الماضى.. لكن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.. وقد لدغ المرتزقة هذا الوطن كثيرًا فى سبيل تحقيق طموحات رخيصة حولت بعضهم من صبى يأكل فضلات الطعام فى مكتب إحدى الصحف العربية لإعلامى وكاتب وصاحب رأى معارض، فى حين أن صفته الحقيقية أنه «معارض» بحذف النقطة من على حرف الضاد وليس بوضعها.. والحقيقة أننى بمجرد ما انتهيت من مشاهدة الحلقة الثالثة قلت لنفسى إذا كان الإخوان يصرخون كل هذا الصراخ والحلقات ما زالت فى بدايتها.. فماذا سيفعلون مع الحلقة الأخيرة إذن.. إن الحلقات تروى تاريخًا عشناه جميعًا وأنا على استعداد لأن أقف أمام المحكمة لأقسم إن كل ما ورد فى الحلقة الثالثة عن عام حكم الإخوان سليم جدًا ودقيق جدًا وأقل من ذلك الواقع الأسود بكثير.. كان عام حكم الإخوان بالنسبة لى ولكثير من المصريين هو عام الغربة فى الوطن وكان الفشل وانعدام الكفاءة هو عنوان المرحلة، وكان الجوع للسلطة والرغبة فى التكويش على كل شىء هو الراية التى يرفعها الإخوان فى كل مكان، وكان شباب الإخوان المخدوعون يشكون من امتلاء حزب الحرية والعدالة بالانتهازيين والمشبوهين وروى لى أحدهم ضاحكًا أن امرأة سيئة السمعة وقعت استمارة عضوية فى الحزب فى منطقته وعندما اعترض قال له المسئول.. سنستفيد منها فى يوم من الأيام!! والأكثر من هذا أن قيادات الإخوان الوسطى الذين كانوا يطاردون الصحفيين قبل ثورة يناير تحولوا إلى ديوك رومية منفوخة وكاد بعضهم ينفجر من كثرة الغرور.. وكانت لبعضهم جولات صريحة فى التحرش بالمذيعات والصحفيات.. والمعنى أن الإخوان أصيبوا بكل أمراض السلطة دون أن يجيدوا الإمساك بالسلطة نفسها ودون أن يفلحوا فى إدارة كشك سجائر فى مصر.. فضلًا عن أن يفلحوا فى إدارة مصر نفسها.. صحيح أنهم لم يخلقوا مشكلات الواقع لكنهم عجزوا عن إدارة هذه المشكلات أو تقديم حلول لها.. فالصراع السياسى الذى وضعوا بذرته فى ٢٨ يناير هد حيل البلد وأوقف الاستثمارات والسياحة.. وعدم اعتراف الناس بسلطتهم أدى لتصاعد المظاهرات والاحتجاجات حتى أصبحنا على شفا حرب أهلية، ورغبتهم الغشيمة فى تغيير طبيعة مؤسسات الدولة فى أيام قليلة جعلها تدخل فى عصيان مدنى صامت، فضلًا عن مواجهات القضاة والإعلاميين والمثقفين والفنانين والسياسيين لهم.. وهو وضع كان من المستحيل استمراره.. ولم تكن مخاوف الأقباط فى مصر والضغوط التى تعرضوا لها أقل من مخاوف جميع المصريين، وأظن أن صناع المسلسل خففوا الجزء الخاص بضغوط الإخوان على الأقباط حتى لا يعيدوا التذكير بأيام سوداء تحمل فيها المصريون وفى القلب منهم الأقباط الكثير والكثير.. ولعل أكثر ما يخيف الإخوان من المسلسل ليس فقط أنه ينير وعى المصريين بحقيقة ما حدث ويسرد التاريخ الحقيقى للأحداث بدلًا من سردية ساذجة يرددها الإخوان تختصر ما حدث فى أنه رغبة شخصية لوزير الدفاع فى إزاحة رئيس «منتخب».. وهى رواية للتاريخ على طريقة أن تقول لشخص إن الله سبحانه وتعالى قال فى القرآن «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة» ثم تسكت.. أنت فى هذه الحالة مضلل عظيم ومسىء لدين الله.. والصحيح أن تذكر الآية كلها على بعضها وملابسات نزولها «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون».. والمعنى أن اقتطاع حدث من سياقه هو بمثابة تضليل.. محمد مرسى كان «منتخبًا» بالفعل ولكنه كان فاشلًا، وغير كفء، وغير مؤهل، وغير قادر أو «مستطيع بغيره» بالمعنى الفقهى، والأهم أن وجوده كان خطرًا على بقاء الدولة المصرية ومصالحها، وإنه كان من المستحيل أن يحكم وهو على خصومة مع مؤسسات الدولة المصرية كلها ومع الشارع المصرى كله والنخبة بمختلف قطاعاتها.. هذه هى حقيقة ما حدث.. وهذا هو عنوان عام حكم الإخوان.. وهى حقيقة يعرفونها وتؤلمهم ويؤلمهم أكثر أن يعرفها كل المصريين ويروها موثقة بالصوت والصورة ولهذا يعلون صراخهم.. ولا مانع أبدًا من الصراخ فهو الدليل الوحيد الذى تثبت به الجماعة أنها ما زالت على قيد الحياة.