مشروع «المدرس المصرى»
كلما تذكرت ما كنت أفعله وأنا طالب تجاه مُدرسىّ انتابنى خجل عميق.. كنت طالبًا فى الثانوى فى النصف الثانى من الثمانينيات.. كنت مشاغبًا بطبعى، لكن «مدرسة المشاغبين» جعلتنى أخلط بين شغب المراهقة وأمور أخرى.. لم تكن ثمة مشكلة حقيقية سوى أننى كنت معجبًا جدًا بأبطال مدرسة المشاغبين، وكنت أحاول تقليدهم بتصرف أو بقدر الإمكان.. فى ذلك الوقت كان الأغلب الأعم من المدرسين نماذج أخلاقية رفيعة تستحق كل احترام.. وكانت هناك قلة دون المستوى.. طيش المراهقة جعلنى أعتقد أن العلاقة النموذجية بين الطالب والمدرس هى علاقة المشاغبين بمُدرستهم «الأبلة عفت» فى النصف الأول من المسرحية لا فى النصف الثانى.. كنت أستغل معرفتى بالعلوم الاجتماعية واللغة العربية لأحرج المدرسين أو أنصب لهم فخاخًا بأسئلة من خارج المنهج.. وكنت ألتزم الصمت تمامًا فى حصص الرياضيات والعلوم اللتين لا أعرف عنهما أى شىء.. شهادتى كطالب عاش هذه الفترة أن «مدرسة المشاغبين» والأعمال التى قلدتها أفسدت العلاقة بين المدرسين والطلاب وأساءت لصورة المدرس المصرى حتى الآن.. منذ أيام كنت أقرأ مقالًا قديمًا للدكتور لويس عوض يتحدث فيه عن زيارة الروائى الفرنسى الكبير «ميشيل بوتور» مصر فى الستينيات، وكيف اكتشف أنه هو نفسه مدرس اللغة الفرنسية الذى درس له فى المنيا فى أواخر الثلاثينيات.. قال لويس عوض إن أستاذه جاء ضمن دفعة من المدرسين الفرنسيين تعاقد معها د. طه حسين لتدريس الفرنسية لطلبة المدارس الثانوية فى مصر وإنه زار معهد المدرسة الثانوية فى المنيا لاسترجاع الذكريات.. ما أقصد أن أقوله إن مستوى المدرسين المصريين لم يكن يقل عن مستوى المدرسين الأجانب الذين تتم الاستعانة بهم.. كانوا أساتذة وعلماء ومثقفين كبارًا.. محمد عبدالوهاب كان مدرس موسيقى.. أحمد رامى عمل فترة بالتدريس.. وهناك عشرات وعشرات من الأسماء الكبيرة وذات القيمة.. هذه القيمة هى التى دفعت أحمد شوقى أمير الشعراء لأن يقول عن حق «قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا».. لم يكذب أحمد شوقى لأن المعلم الحقيقى يخرج بطلابه من ظلام الجهل إلى نور المعرفة.. المعلم هو الذى ينقل للطالب قيم الوطنية والإنسانية والمحبة والسلام.. لم يكن غريبًا أن يسعى المتطرفون لتجنيد أكبر عدد من المدرسين ولتوجيه كوادرهم لدخول كليات التربية المختلفة، فضلًا عن تأسيس مئات المدارس الخاصة والسبب معروف.. إذا حصلت على مدرس جيد حصلت على عشرة آلاف مواطن صالح أو أكثر.. كل طالب يعلمه مدرس مؤهل وذو ضمير هو قيمة تضاف لهذا البلد.. وكل طالب يقوده حظه لمدرس معدوم الضمير أو فاسد أو متطرف هو كارثة على هذا البلد، لا يوجد مسئول عربى محترم قابلته إلا وتحدث عن فضل المدرس المصرى فى تعليمه هو وأقرانه فى الستينيات والسبعينيات وما بعدهما بقليل، كان المدرس المصرى المحترم سفيرًا لمصر فى الدول العربية، أدوا رسالة عظيمة فى الوقت الذى كنا هنا نهينهم ونفتح الطريق لتشويه صورتهم للأبد بمدرسة المشاغبين.. لم تكن المسرحية هى السبب الوحيد فى تراجع قيمة المدرس المصرى، ولكن بالطبع هناك عوامل مادية واقتصادية وسوءًا فى الاختيار.. وتراجعًا فى مستوى الجامعات المصرية بشكل عام.. كل هذه العوامل اضطرت المدرس الموهوب لأن يتحول لتاجر دروس خصوصية ولأن يتعامل مع مهنته كسلعة وليس كرسالة.. انحرف بعض ضعاف النفوس منهم لاضطهاد الطلاب وإجبارهم على الدروس الخصوصية تحت ضغط سلطة المدرس فى التقييم التى كنا نعرفها قديمًا بـ«أعمال السنة».. الكارثة الحقيقية أن المدرس كان أول ممثل للدولة أو السلطة نحتك به ونحن صغار، وكانت هذه السلوكيات الصغيرة تعنى لنا أنه ليس هناك ما يستحق الاحترام وأن كل شىء ليس بخير.. كانت هناك نماذج رائعة وما زلت أذكر أستاذ اللغة العربية فى التوفيقية الثانوية وهو مثقف وشاعر وضابط مقاتل فى حرب ١٩٧٣.. كان راقيًا لدرجة تدفع أبناء محدثى النعمة وتجار سوق روض الفرج للسخرية من هدوئه وأسلوبه الذى يليق بشاعر.. كانت هذه سلوكيات عامة فى المدارس وأظنها تطورت لما هو أسوأ بعد ذلك.. ما أريد أن أطرحه أن الرئيس السيسى يجب أن يشمل المدرس المصرى برعايته واهتمامه، نريد أن يكون لدينا مشروع وطنى لتخريج المدرس المصرى، نريد مدرسًا يجمع بين المهارة الفنية والثقافة العامة والوعى الوطنى، لو وصلنا لإعداد مدرس يقتنع بأن التدريس رسالة لا سلعة فسنحصل على أجيال رائعة بعد سنوات، التعليم مدرس جيد قبل أن يكون مناهج أو مبانى أو أجهزة.. أعطنى مدرسًا جيدًا أعطك شعبًا رائعًا، لقد تدخل الرئيس السيسى لإنصاف قطاعات طالها ظلم ما فى العقود السابقة وأسفر تدخله عن تغيير ملموس فى أوضاع هذه القطاعات.. وأعتقد أن الرئيس يجب أن يتدخل لإطلاق مشروع «المدرس المصرى».. الفكرة أن المدرس لا يقل أهمية للوطن عن الضابط أو الإعلامى، بل إن دوره قد يكون أهم فى تأسيس جذور الوعى.. من هنا يبدأ التغيير وليس من مكان آخر.. والله أعلم.