«مذابح العشرية السوداء.. ربع مليون قتيل».. الجبهة الإسلامية للإنقاذ تغتال الطاهر جاووت
في الفترة من 1991 وحتى 1999 شهدت الجزائر أحلك سنوات تاريخها منذ إنهاء الاحتلال الفرنسي عن أراضيها٬ وهي الفترة التي عرفت بـ"العشرية السوداء"٬ والتي شنت خلالها الجماعات الإسلامية٬ تحديدا الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة عباس مدني٬ حملات مسلحة ضد الشعب الجزائري٬ حيث خلفت المجازر الدموية التي نفذتها هذه الجماعات بما يقرب من ربع مليون قتيل مدني على يد هذه التنظيمات الإرهابية.
ومن بين شهداء هذه المجازر الشاعر والصحفي والروائي "الطاهر جاووت"٬ الذي استشهد في مثل هذا اليوم من العام 1993 ولم يكمل العقد الرابع من عمره٬ حيث مات وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، عندما اغتيل على يد جماعة إسلامية متطرفة أمام بيته وهو يهم بركوب سيارته٬ حيث أطلق عليه منفذو العملية زخات من الرصاص سقط على إثرها فورا.
ويعد الطاهر جاووت أول صحفي يستشهد ضمن قائمة ضمت سبعين صحفيا آخر جراء مذابح العشرية السوداء٬ خلال التسعينيات من القرن المنصرم.
يقول عنه مواطنه الروائي "الطاهر بن جلون": لقد صدمت باغتياله٬ كانت الفترة التي قرر فيها المجرمون تصفية الجزائر من مثقفيها وأفضل مفكريها، نجد دائما في شعره أو رواياته ملامح التمرد الذي عادة ما يميز الشعراء٬ فالشاعر دائما يعبر عن ثورة عميقة.. أنا لا أعرف شاعرا هادئا.. انظروا مثلا إلى رامبو لقد دفعه تمرده إلى مغادرة فرنسا إلى بلاد أخرى بعيدة.. هناك أيضا جان جينيه الذي كان دائما ثائرا، وبودلير أيضا.. الطاهر جاووت كان دائما ثائرا بسبب ما كان يدور من حوله
كان الطاهر جاووت كلما ازداد علما ومعرفة٬ ازداد احتراما وتواضعا لأهله وبلده٬ لقد كان يعتقد أن أغلى ما يملكه الإنسان هو أهله وبلده وشعبه.. وكان يعتقد أيضا أنه على الفرد أن يتمسك بثقافته وأصالته إذا أراد أن يكون له شأن عظيم بين الناس.
وفي هذا الصدد يقول أحد أقاربه "أحمد تيسة": كان يحب قريته "أولخو" حبا شديدا أكثر من مدينة "أزفون"٬ قلت له: لماذا لا تبني منزلا في أزفون لاستقبال ضيوفك وأصدقائك من الكتاب والصحفيين الجزائريين والأجانب؟٬ فأجابني: "أنت تحب أزفون لأنك ولدت فيها٬ أما أنا فأفضل قريتي (أولخو) التي ولدت فيها"٬ كان وثيق الصلة بقريته التي ولد فيها.
بعد حصوله على شهادة البكالوريا التحق بكلية الرياضيات بجامعة الجزائر ليحصل على شهادة الليسانس٬ في الوقت نفسه اكتشف أن لديه ميلا للشعر٬ فنظم عددا من القصائد الشعرية نشر بعضها في بداية السبعينيات٬ في مجلات شعرية مغاربية كمجلة "خومس" الصادرة في الجزائر٬ ومجلة "ألف" الصادرة في تونس.
وعن شعره يقول "أرزقي مترف": لقد تميزت قصائده الأولى بالنضج٬ فقد كانت ثقافته واسعة٬ وقد كتب قصائد رائعة تعكس إلمامه بموضوع الشعر.
وبدوره يقول الروائي "أمين زاوي": الشجاعة هي المحرك الرئيسي لشعره٬ كانت الشجاعة واضحة في شعره وأدبه٬ كان مثقفا وأديبا جريئا٬ وهو فريد من نوعه في الجيل الثالث من الأدباء الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية.
في بداية السبعينيات كان صعبا على هؤلاء الشعراء الشباب نشر إنتاجهم الفكري٬ ذلك الفكر الذي يحمل رسالة جديدة تختلف عن الخطاب الرسمي الذي تروج له السلطة في ذلك الوقت٬ فوجد الطاهر جاووت نفسه مضطرا لنشر ديوانه الشعري الأول "الانقلاب الشائك" في خارج الجزائر.
كان الطاهر جاووت يتقن اللغة العربية مما سمح له بفهم الخطاب الذي كان ينشره التيار المتأسلم٬ لقد تنبأ في أي اتجاه كانوا يريدون جر الجزائر٬ كانوا يجرونها نحو الدمار والدماء والتفجيرات
وفي آخر رواياته، المعنونة بـ"الصيف الأخير للعقل"، تخيل الطاهر جاووت الجزائر تحت وطأة المتطرفين الإسلاميين٬ تخيله هذا لم ينتظر طويلا ليتحول إلى حقيقة مُرة كتبت صفحاتها بدموع ودماء الجزائريين التي سالت خلال عقد كامل من الزمن، وكأنه تنبأ باغتياله وما ينتظر الجزائر بعد ذلك.
وهو ما تدل عليه الرواية خاصة هذا المقطع كأنه نبوءة تحققت خلال وقت قصير:"سيأتي يوم يسأم فيه الناس من التفكير ويصاب فيه أهل الفكر باليأس٬ ويضطرب فيه العقل٬ أولئك الذين يترقبون وصول الليل الحالك مصحوبا باستسلام الفكر٬ سيتظاهرون حينئذٍ وينتشرون٬ كانتشار الظلام الذي لا مفر منه بعد غروب الشمس.. لا يزال هذا البلد عن مسح الحزن الذي يتركه كل يوم يمر علينا٬ كأن هذا الزمن أصابه الجنون٬ وأصبح من الصعب التنبؤ بما سيأتي به الغد٬ وأصبحنا نتساءل هل سيعود الربيع؟".
في بداية التسعينيات كانت الجزائر وصلت إلى مفترق طرق٬ كانت أمام خيارين٬ طريق يمثله نظام الحكم آنذاك٬ وطريق آخر يدعو إليه التيار المتأسلم الذي كان يسعى لإقامة إمارة إسلامية متطرفة في الجزائر.. الطاهر جاووت كان في تلك الفترة من الذين يعتقدون أن الجزائر لا يمكن لها أن تكون رهينة هذين الخيارين٬ فكان مقتنعا بأن هناك مسلكا آخر يقضي بإقامة جمهورية ديمقراطية تحترم كل الحريات والأديان٬ فعمد مع بعض زملائه إلى تأسيس جريدة أسبوعية بعنوان "القطيعة"، وكانت الغاية منها أن تكون منبرا للتعبير عن حتمية السير في هذا الاتجاه الثالث.