سِفر الثأر و الدم
في خضم التفجيرات المتلاطمة في أيامنا الأخيرة بين جنبات الكرة الأرضية بشرقها و غربها و شمالها و جنوبها ، تنفجر الأسئلة كالدماء المنبثقة من الأجساد المضرورة من القنابل و الديناميت تحت مسميات مقدسة ، لطخت قدسية العقيدة بالدماء و الصرخات الخارجة من أفواه البشر متسائلين:
لماذا يُفعل بنا كل هذا ؟ أي ذنب إقترفناه ليجلب علينا تلك الضربات الحارقة ؟!
من هنا تأتي مهمتنا لنعرف الأسباب التي أدت لتلك الملاحم الدموية باسم القتل المقدس لإعلاء كلمة الدين و بذكر الجهاد المقدس تتسابق الألسنة في ذكر اسم مُنظر الملاحم الدموية بنكهة الثأر و الإنتقام .. سيد قطب بسِفره المتوهج كتوهج النار المقدسة (معالم في الطريق).
صدر هذا السِفر أو المنوفستو في مطلع الستينات من القرن الماضي وقت مكوث صاحبه بين جدران السجن متأملاً رحلته الطويلة المليئة بمحطات التحول و التغير من نقيض لآخر ، كي يصل إلى الحقيقة التائهة بين لمعان عيناه الحادة السارحة ، و كأنه يحاول المسك بالخيوط السارحة من أجل تسجيل اسمه في صفحات الخلود !!
سيد قطب ذلك العلم المُحير ذو الإستفهامات القائمة إلى الآن ، لازال بسيرته المخضبة بتموجات التناقض يحير الأقلام كحيرة العلماء في نسبية أينشتاين متسائلين في أسفار الوجود :
لماذا تحول لسيرته القائمة ملهمًا من بين جنبات قبره طلقات النار الجارية كجريان الأنهار ؟!
في سيرته الجارية نكتشف التحولات الكبرى في شخصيته بتقلباتها كتقلبات الرياح ما بين الماسونية ، العلمانية ، الشيوعية ، الوطنية إلى أن وصل للعقائدية بتجميعه بين كل هذا بمنتهى الإئتلاف عبر جسر التطرف وقت مناداته لكل مدرسة آمن بها و نَظَّر لها.
من سمات قطب الواضحة ، التعجل في الوصول للهدف المنشود ، فتارةً أعلن ماسونيته بمجلة (التاج المصري) للظفر بالتواجد في صفحات الخلود و تارةً أعلن عن وطنيته المتناهية وقت تعريفه بالأديب الشاب نجيب محفوظ في العام 1944 عند صدور روايته الثالثة (كفاح طيبة) قائلاً :
لو كان الأمر بيدي لقررت رواية كفاح طيبة كسفر حتمي للتواجد بالمنازل ليتربى الجميع على العقيدة الوطنية.
توالت التيارات التي آمن بها بجوارحه حتى في ظل محاولاته المستميتة للتلمذة على يد هرمي الأدب العربي ، العميد و العملاق إلى أن فشل في جذب إنتباههما للظفر بالتلمذة الخالدة لتزداد المرارة في حلق الباحث عن التميز إلى أن جاءت الرحلة المصيرية في تكوين ملامحه الفكرية ببلاد العم سام من العام 1948 حتى العام 1952 تبع بعثة تنتمي لوزارة المعارف العمومية و التي ساهمت في إستمرار تنقله كالنحلة التائهة بين مختلف الزهور ، ما بين النوادي الكنسية و حفلات الجاز و مسرح برودواي.
هكذا كانت النفسية الحائرة هي عنوان المالك لسمة التطرف و الغلو بكافة أشكالها ، إلى أن إستقرت إلى مكمنها النهائي يوم سماعه لتهنئة الأمريكان وقت تلقي نبأ وفاة مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا ، في 12 فبراير من العام 1949.
كانت أمريكا هي الوحي الأَوَلي لسفره الدموي بعد تحوله من لحظات الإعجاب ببلاد الأمريكان إلى لحظات السخط و الرفض لتكون العودة لمصر هي الناتج النهائي وقت نزاعه مع رجال ثورة يوليو و هو خطيبها ا ، لفشله في الوصول لوزارة المعارف العمومية التي أراد أن ينشر فيها فكره المطارد لنا حتى الآن.
ظل سيد قطب أسير السجن من العام 1954 حتى العام 1964 لإنضمامه لجماعة الإخوان و لتدعيمه بأفكار حيوية أضيفت لميثاق الجماعة عبر كتابه الناري الذي أعلن عن تكفير الجميع لتخليهم عن تطبيق شرع الله و رفضهم لحكامية الله في الأرض ما داموا منتمين للحكومات الكافرة !!
هذا الكتاب الذي كُتب في السجن كقط أليف ظل حبيسًا بين القضبان متداولاً بين أقران صاحبه إلى أن تحول لنمر مفترس عقب خروجه من السجن في العام 1964 كخطوة إصلاحية أقرها الزعيم جمال عبد الناصر تحولت لرياح عكسية عقب اكتشاف التفاصيل الدموية التي خطط لها الكتاب لتنفذ على أرض الواقع.
نظرًا لإخفاقات مؤلف السِفر نمى بداخله شعور دائم بالسعي للثأر و الإنتقام متسترًا خلف الدين في أن ما أدى لعوامل الإنهيار للأمة المسلمة أنها تنازلت عن خطوات الجيل القرآني الفريد المتمثل في الرسول الكريم و صحابته الأجلاء مناديًا بالإكتفاء بالقرآن و السنة للوصول للتميز المنشود.
رفض الإبداع و العلوم الإنسانية و الفلسفة لمخالفتهم لكلام الله مع التركيز على العلوم و التكنولوجيا لتدعيم المنهج الحيوي لمحاربة المجتمع الجاهلي الذي رفض الشريعة و الحاكمية مصنفًا الجميع بالهرطقة و الضلال !!
جاء سِفر قطب كقبلة حياة للجماعة التي سئمت الإصلاح و التنوير البناوي الذي في الأصل لمحة ظاهرية تتستر خلفما نادى به و طبقه قطب حسب تعليمات المؤسس في مجلة النذير في العام 1937 قائلاً :
إن الوطن بتخومه و هضابه و تضاريسه ما هو إلا حفنة من التراب العفن.
تعامل قطب بمبدأ الرفض الدائم لكل ما هو متاح في الحياة تحت مسمى التقوى و الزهد معبرًا عن مجتمعنا العصري بالجاهلية مواجهًا إياه بجاهلية إستيعاب الدين بتعاليمه السامية التي لم ترفض الآخر و لم ترفض الوطنية و الإعتزاز بأرض الوطن.
واجه تيار الوطنية بتيار العقائدية كوطن بلا أرض يطير كالصقر الجارح ينهش فيمن يبتغي الحياة لتخرج من عباءته الجماعات التكفيرية و تنظيم القاعدة و داعش مطبقين صيحته الشهيرة يوم الإحتفال بثورة يوليو بالمنصورة في العام 1952 بأحد مساجدها قائلاً :
إن طريق الدعوة ليس مفروشًا بالورود و لا الرياحين بل مفروشَا بالدماء و الرفات و الجماجم.
تلك هي صيحة داعش الآن التي تدور كدوران الأرض في كل أرجاء الخارطة الملتهبة من جراء سِفر الثأر و الدم.