ظواهرٌ في فكرِ البنّا
«لم يكن حسن البنا نبيًا يوحى إليه، ولا عالمًا يوتَنسُ بعلمه، ولا فقيهًا يستنبط الأحكام، ولا واعظًا يمتلك الرشادة، ولأنّ كلًا وجب الأخذ منه والرد عليه، فتلك قراءةٌ لفكر الرجل توجب على أتباعِه وغيرِهم إعادة قراءته».
الظاهرة الأولى: الاغترارُ بالذات وإقصاءُ الآخر إن مجمل رصيد حسن البنا من المصنفات –إن لم أكن غافلًا عن بعضها- كتابٌ واحد هو «مذكرات الدعوة والداعية» مجموعة من الرسائل الموجهة لأعضاء جماعته، وربما، للراغبين في الانضمام إليها، ومقالاتٌ متناثرة ببعض الصحف الإخوانية، هذا مبلغ علمي وإن ظهر غير ذلك فليمدنا به من يملكه.
لعل الظاهرة الأبرز في كتابات البنا -من وجهة نظري- هي ظاهرة الاعتداد بالذات وما أنتجته قريحته إلى الحد الذي يمكن أن نسميه الاغترار بالذات، والذي يحتم بالضرورة إقصاء الآخر أيًا كان توجهه، وهو في اغتراره يتنقل بين دوائر ثلاث: دائرة ذاته الفردية، إلى دائرة جماعته التي تم التعارف على قيامه بتأسيسها، والدائرة الأكبر، دائرة الأمة الإسلامية، وعلينا ألّا ننسى أنّ الدائرتين الأُوليين متداخلتان إلى الحد الذي يدمجهما معًا في دائرة واحدة هي دائرة الجماعة، باعتبار أن الجماعة صناعته أولًا وأخيرًا مهما اتفق او اختلف الباحثون حول حقيقة اسم المؤسس، وسندلل بنماذج من كتاباته تَصِمُهُ – بالتأكيد – بالعنصرية، سواءً باعتداده الذي وصل حدَّ اغتراره بذاته أو اغتراره بجماعته.
وهناك نماذج كثيرة، نكتفي منها بقول البنا في ركن الفهم، «إنما أريد بالفهم أن توقن أن فكرتنا إسلامية صميمة وأن تفهم الإسلام كما نفهمه».
حاول البنا، بل يكشف عن مكنون نفسه في جعل من يدخل الجماعة بلا إرادة وإنما يملي عليه ما يريد، فهو في هذا الركن الذي يمثل الركن الأول من أركان البيعةِ العشرة حسب مخططه الذي وضعه فيما يسمى برسالة التعاليم، والتي يوجهها بالخصوص إلى أعضاء الجماعة التي يسميها أحيانًا الفكرة، وأحيانًا الدعوة، وفي أقل القليل الجماعة.
وهو هنا في أوّل الأركان العشرة يثقُ بذاته وبجماعته التي أسسها من فكرة –حتى وإن ثبت أنّ المؤسس الحقيقي هو أحمد السكري- فيصادر على فهم من يضمه للجماعة، بل ويصل في اغتراره إلى حد أن يطلب من العضو الإيقان بأن ما يدعوه إليه لا يحتاج إلى إعمال العقل فيسيطر بعقله على عقول أعضاء الجماعة، ثم هو يطلب من إيقان العضو الذي يصل إلى حد التسليم، أن يثق بأن الفكرة، أي الدعوة، أي الجماعة، إسلامية صميمة، وتدعونا كلمة «صميمة» هذه إلى إعمال العقل في معناها حيث أن «صميمة» تعني إسلامية جوهر الجماعة، بينما الذهاب إلى نصوص القرآن يطرد فكرة الـ«صميمة» هذه تمامًا من مساحة الإيقان.
فكيف تكون الجماعة تحت أي مسمى «دعوة أو فكرة» موافقة لنصوص الشرع الشريف من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، قوله تعالى «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»، آل عمران: 19.
وقوله «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»، آل عمران: 103.
وقوله جل شأنه «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»، آل عمران: 105.
ومنها أيضا قوله تعالى «وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، الأنعام: 153.
و«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»، الأنعام: 159.
وقوله عز وجل وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»، اللأنفال: 46.
و«شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيييْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلللَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ»، الشوري: 13 -14.
وكذلك قوله جل علاه «وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ»، البينة: 4.
هذا إلى جانب العديد من الأحاديث النبوية الشريفة صحيحة الإسناد، والتي نذكر منها أيضًا على سبيل المثال لا الحصر:
قول النبي ﷺ «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم......» أخرجه البخاري في صحيحه برقم 3611.
ونختتم مقالنا بما قاله المصطفى ﷺ لكعب بن عجرة، «أعاذك الله مِن إمارة السُّفَهاء. قال: وما إمارة السُّفَهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي، لا يقتدون بهديي، ولا يستنُّون بسنَّتي، فمَن صدَّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا منِّي ولست منهم، ولا يردوا على حوضي، ومَن لم يصدِّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك منِّي وأنا منهم، وسيردوا على حوضي»، رواه أحمد والبزار وصححه الألباني.
* إعلامي مصري