الإتجار في الآثار.. قصور الفتاوى الشرعية يشجع أصحاب الأطماع
أغلب الفتوى تدور حول الأثر كمعدن وتتغافل عن قيمته التاريخية وتختص به أبواب الزكاة
تعددت عمليات تهريب الآثار المصرية إلى الخارج، والتنقيب عنها، وكان أشهرها عملية تهريب عدد من القطع الأثرية النادرة في حقائب دبلوماسية إلى إيطاليا والتي ضبطتها سلطات مدينة نابولي، وتنتشر عمليات التنقيب عن الآثار والإتجار فيها بشكل كبير خاصة في الصعيد، ويستند المنقبون عن الآثار على فتاوى شرعية تبيح لهم ذلك باعتبارها من أنواع التجارة الحلال مستندين إلى تضارب الفتاوى حول مشروعية الإتجار فيها، ويتخلل ذلك أعمال الدجل والاستعانة بالجن، كما هو الحال في الواقعة التي أسدل عنها الستار في المحاكم المصرية أمس الثلاثاء بإعدام المتهم بذبح بنتيه قربانا للجن لاستخراج الآثار في الجيزة.
ومن أشهر الفتاوى التي صدرت في هذه المسألة فتوى الداعية محمد حسان في برنامجه على قناة الرحمة في أكتوبر 2010م والتي قال فيها:
"إن كانت هذه الآثار في أرض تملكها أو في بيت لك، فهذا حقك ورزقك، ورزق ساقه الله إليك ولا إثم عليك في ذلك ولا حرج، وليس من حق دولة ولا مجلس ولا أي أحد أن يسلبك هذا الحق وأن يسلبك هذا الرزق الذي رزقك الله إياه، هذا رِكازٌ أو كَنزٌ أو ذَهَبٌ أو .. أو غير ذلك، فهذا من حقك إن كان في ملكك أما إن كانت هذه الآثار ظاهرة التجسيم لأشخاص فعليك أن تَطمِسها، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع هذا وما حُرم بيعه حُرم ثمنه، أما الآثار إذا كانت في صورة ذهب أو في صورة رِكاز أو غير ذلك.. فهذا حقك إن كانت في ملكك، أما إن كانت هذه الآثار في أرض عامة في مال عام تمتلكه الدولة فليس من حقك إبداً أن تأخذه وليس من حقك أن تُهَرِبه وليس من حقك أن تسرقه أو أن تبيعه وإن فعلت ذلك فقد فعلت حراماً والمال الذي أخذته إنما هو مال حرام، فما ظنُك بمن يسرقون الآثار على مرأي ومسمع باسم الحرية والديمقراطية كما رأينا بأم أعيننا على شاشات الفضائيات في العراق".
وتسير هذه الفتوى التي أثارت حالة من الجدل وقتها، ومازالت إلى الآن والتي يعتمد عليه المنقبون باعتبار أن الآثار التي يعثرون عليها حلال لهم، وفق ما هو موجود في كتب الفقه، التي تتناول الآثار تحت باب الزكاة ومنها زكاة الركاز والمعادن، إذ لم تكن للآثار قيمة مادية قديما كما هي عليه الآن، وكانت قيمتها تقاس بما تحويه فقط من المادة المصنوعة منها كالذهب والفضة، ولذلك فإن من الفقهاء الذين تحدثوا عن الركاز الذي ينطبق عليه مصطلح "الآثار" المعاصر كانوا يقصرون الزكاة فيها على المصنوع من الذهب والفضة فقط.
والركاز عند جمهور العلماء هو كل مال علم أنه من دفن أهل الجاهلية، وقد أوردت الموسوعة الفقهية ذلك: وفي الاصطلاح: ذهب جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة) إلى أن الركاز هو ما دفنه أهل الجاهلية، ويطلق على كل ما كان مالاً على اختلاف أنواعه، إلا أن الشافعية خصوا إطلاقه على الذهب والفضه دون غيرهما من الأموال. وأما الركاز عند الحنفية فيطلق على أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق فيشمل على هذا المعادن والكنوز، على تفصيل".
وقال ابن قدامة في المغني: الركاز الذي يتعلق به وجوب الخمس ما كان من دفن الجاهلية. هذا قول الحسن، والشعبي، ومالك والشافعي، وأبي ثور، ويعتبر ذلك بأن ترى عليه علاماتهم كأسماء ملوكهم، وصورهم وصلبهم، وصور أصنامهم، ونحو ذلك، فإن كان عليه علامة الإسلام أو اسم النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من خلفاء المسلمين أو وال لهم، أو آية من قرآن أو نحو ذلك فهو لقطة، لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه، وإن كان على بعضه علامة الإسلام وعلى بعضه علامة الكفر، فكذلك نص عليه أحمد في رواية ابن المنصور، لأن الظاهر أنه صار إلى مسلم، ولم يعلم زواله عن ملك المسلمين فأشبه ما على جميعه علامة المسلمين.
(انظر: المغني، لابن قدامة، الجزء الثالث، ص 48)
وبالتالي فقد ربط قدامى الفقهاء مسألة الآثار أو "الركاز" بأبواب الزكاة أما الفقهاء المعاصرون فكان لهم رأي آخر، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن أغلب الأراضي الحالية في بلاد المسلمين، سواء التي كانت مفتوحة عنوة أو صلحا، آلت ملكيتها السابقة قبل أن يتملكها أصحابها سواء بالشراء أو بالإحياء إلى الدولة الإسلامية، وبالتالي فقد صارت أرضا إسلامية وليست جاهلية وما كان عليها وفي جوفها ملك للمسلمين، وهناك ضوابط تفصيلية دقيقة في هذا الأمر منصوص عليها في نظام الملكية في الإسلام، ولذلك فإن الفتاوى المعاصرة مازالت في حاجة إلى أن تأخذ في الاعتبار هذه الناحية، مع مراعاة موقف الشرع في النظر إلى هذه الآثار خاصة التماثيل واقتناؤها سواء بغرض البيع أو غيره، وما يعنينا هنا هو جانب الإتجار فيها.
والحقيقة فإن الفتوى في مسألة الإتجار في الآثار مازالت في حاجة إلى دراسة متعمقة لإزالة اللبس فيها، لأن الإجابة مازالت غامضة، ومن ذلك الفتوى رقم 1877 بتاريخ 23-06-2011 الصادرة عن دار الإفتاء المصرية وهذا نصها:
"التنقيب عن الآثار من الأعمال التي تشرف عليها الدولة أو ولي الأمر، يتم فيها التفتيش عن آثار الأمم السابقة، مسلمة كانت أم غير مسلمة، ثم إظهارها وإبرازها للناس.
والناس بعد ذلك لهم في هذه الآثار اتجاهات شتى:
فمن زارها ونظر إليها لاتخاذ العبرة والعظة أو للاطلاع على تاريخ الأمم وحضارات الشعوب، وخاصة إذا كانت آثارا إسلامية تظهر عظمة التاريخ الإسلامي: فذلك مقصد صحيح وغرض شرعي مقبول، إذ القرآن الكريم مليء بالدعوة إلى التفكر والتأمل في آثار الأمم السابقة، كما قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) آل عمران/137، وقال عز وجل عن قوم ثمود: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) النمل/52، وقال سبحانه عن قوم لوط: (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) العنكبوت/35.
أما إذا كانت آثارا غير إسلامية، ونظر إليها الزائر نظر تقديس ديني، فقد وقع في المحذور.
وعلى كل حال فالعامل في التنقيب تحت إشراف وزارة الآثار لا إثم عليه، فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حين قال: (وفي الركاز الخمس) متفق عليه، فإيجاب الزكاة على من وجد شيئا من آثار السابقين يتضمن الإذن بتملك ذلك الركاز وبيعه وشرائه، إلا إذا اشتمل على الأصنام والتماثيل أو غيرها من المحرمات، فلا يحل الانتفاع بها حينئذ.
أما من يعمل في التنقيب عن الآثار لحسابه الخاص، فقد خالف الأنظمة التي وُضعت لمصلحة الأمة عامة، وعرض تلك المصلحة للاعتداء، فلا يحل له ذلك. والله أعلم".
ورغم ذلك فإن هناك فتاوى فردية صريحة تحرم الإتجار في الآثار حتى وإن وجدت في الممتلكات الخاصة، لكنها تستند إلى أن القانون يجرم ذلك فقط، ولم تقدم إجابة شافية غير ذلك، ومنها فتوى الشيخ أحمد ممدوح، مدير إدارة الابحاث الشرعية في دار الإفتاء، الذي أكد في لقاء تليفزيون إن التجارة في الآثار الفرعونية أمر ممنوع ومحرم شرعا، وقانون الآثار يمنع تداول تلك الآثار بين الأفراد بعضهم البعض، حسبما ورد في كتب الفقه القديمة من جواز حصول من يجد الركاز على نسبة الخمس وخلافه، فهذه التقسيمات وجدت في ظل ظروف مختلفة وحاليا القانون يرى أن الآثار من المال العام وبالتالي ما يجده الناس في بيوتهم أو مزارعهم من آثار لا تنطبق عليه هذه التقسيمات.