ألغام فكرية.. الجرأة في تحليل الدم الحرام بتحريف النصوص الشرعية
تتصارع نظريات الإسلام السياسي في العصر الحاضر بين 3 اتجاهات، الأول يعتبر أن السلم هو الأصل، والآخر يرى أن الجهاد هو السبيل لتحقيق دعوة الإسلام في الأرض، ولا شيء غيره، ويميل أصحاب الاتجاه الأول لتحكيم العقل والبحث في حقيقة نصوص الجهاد ومقاصدها، أما الاتجاه الثاني فلا يلتفت إلى شيء سوى ما يؤيده، ويعمد إلى تأويل النصوص الشرعية والآثار الواردة عن الصحابة والسلف الصالح في تبرير أفعاله، ويأتي الاتجاه الأخير فيحاول الجمع بين نظريتي السلم والقتال ويقف في منزلة وسطى بين الطرفين.
وما يهمنا هو أصحاب الاتجاه الثاني الذي يرى أن الأصل في دعوة الإسلام هو الجهاد المسلح مطلقا، والذي يتمثل في تلك الجماعات الإرهابية التي تعتبر أن الإسلام لا يقوم إلا تحت ظلال السيوف، وأن الجهاد مقصور فقط في هذه المنطقة الاضطرارية التي تحتاج حمل السلاح دفعا وطلبا، ومع الاعتراف الكامل بأهمية أن يكون هناك قوة مسلحة تحمي المسلمين، إلا أن هذه الجماعات لا تعترف بأية قوة غير المنضوية تحت لوائها ولا تعترف بأي نوع من الجهاد في سبيل الله بغير حمل السلاح معها وحدها.
ومن الطبيعي لكل من حمل السلاح أنه لا يستطيع إعادته مرة ثانية إلى غمده إلا بعد إراقة الدم الحرام، بتوقيع الفتاوى الشرعية التي تستبيح كل محرم، ومنها فتاوى قطع الرؤوس والحرق المباشر الذي تبناه الكثير من الجماعات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى قتل الساجدين في مصلاهم، واستهداف المعاهدين وأهل الذمة في كنائسهم.
داعش وقطع الرؤوس
نبدأ من فتاوي قطع الرؤوس لدى تنظيم داعش الإرهابي التي أصدرها ديوان البحوث والإفتاء لتنظيم داعش في بداية ظهوره لتبرير ما سيرتكبه من جرائم، وجاءت الفتوى ردا على سؤال حول مدى جواز "جز رؤوس النصيرية، وجنود بشار الأسد.
وكان الجواب" يجوز ذبح الكفار وجز رؤوسهم، قال الله تعالى:"
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4]، قال الإمام القرطبي- رحمه الله في تفسيره " لم يقل فاقتلوهم؛ لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأبشع صوره وهو جز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه" اهـ [تفسير القرطبي16/226].
وعن عبدالله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح" [أخرجه أحمد].
قال الإمام الشوكاني- رحمه الله- : قوله ويكره حمل الرؤوس؛ أقول: إذا كان في حملها تقوية لقلوب المسلمين أو إضعاف لشوكة الكافرين فلا مانع من ذلك، بل هو فعل حسن وتدبير صحيح ولا وجه للتعليل بكونها نجسة، فإن ذلك ممكن بدون التلوث بها والمباشرة لها، لا يتوقف جواز هذا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن تقوية جيش الإسلام وترهيب جيش الكفار مقصد من مقاصد الشرع، ومطلب من مطالبه لا شك في ذلك" اهـ [السيل الجرار 4/568]. (انتهى نص الفتوى).
ولا شك أن نظرة بسيطة إلى باقي الآية التي اجتزأها مفتي الدم في "داعش" من سورة محمد يستطيع أن يرى الانتقائية المتطرفة والاجتزاء الممنهج لنصوص الشرع، من أجل تضليل أتباع التنظيم الذين في الغالب يكونون من غير أصحاب العلم، لشرعنة جرائمه.
ونص الآية كاملا هو: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُم} (محمد -4).
قال ابن عاشور في تفسيره للآية : " لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله - تعالى - ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) الآية، إذ لم يكن حكم ذلك مقررا يومئذ، وتقدم في سورة الأنفال...
ثم قال: فليس المعنى: إذا لقيتم الكافرين في الطريق، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل لقيتم.
والمعنى: فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضدتم شوكتهم، فأسروا منهم أسرى.
" وضرب الرقاب ": كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام، وأوثرت على كلمة القتل؛ لأن في استعمال الكناية بلاغة؛ ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض.
والضرب هنا بمعنى: القطع بالسيف، وهو أحد أحوال القتال عندهم؛ لأنه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجها عدوه وجها لوجه.
والمعنى : فاقتلوهم سواء كان القتل بضرب السيف، أو طعن الرماح، أو رشق النبال، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان.
والذين كفروا: هم المشركون لأن اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر، نحو: الكافرين، والكفار، والذين كفروا، هو الشرك.
(انظر: التحرير والتنوير، سورة محمد، قوله تعالى فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، الجزء 27، ص 78)
ولا شك أيضا أن الآية تتحدث عن حال لقاء العدو في المعركة، وليس عن التعامل مع الأسرى الذين لا يجوز قتلهم مطلقا.
أما تفسير الطبري الذي استندت إليه الفتوى فيقول: " يقول - تعالى ذكره - لفريق الإيمان به وبرسوله : ( فإذا لقيتم الذين كفروا ) بالله ورسوله من أهل الحرب ، فاضربوا رقابهم".
(انظر: تفسير الطبري، تفسير سورة محمد، القول في تأويل قوله تعالى " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب "، الجزء22، ص 154)
إذن فإن الطريقة الشهيرة التي يتبعها تنظيم داعش في قطع رؤوس معارضيه والتي اصدر بها فتوى في بداية تأسيسه تبين أنها مبنية على أساس باطل، وأن تفسير الطبري الذي استندوا عليه أبطل هذه الفتوى من أساسها.
فتوى حرق المعارضين
"كما نشر ديوان الإفتاء بالتنظيم الإرهابي داعش" أيضا فتوى بجواز حرق معارضيهم بالنار أحياء وقال نص الفتوى:
الحمدلله رب العالمين والسلام على نبينا محمد وعلى محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فلقد ذهب الأحناف والشافعية إلى جواز التحريق مطلقا وحملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن النار لا يُعذب بها إلا الله) على التواضع، قال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم، بل على سبيل التواضع" اهـ [انظر فتح الباري 6/174].
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: "يدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمي... وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسا من أهل الردة" اهـ [مختصر من فتح الباري 6/174].
وذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريق بالنار محرم في الأصل، غير أنه يجوز عند المماثلة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، حيث شمل أعينهم بالنار- مماثلة- كما في الصحيح، وهذا أظهر الأقوال جميعا بين الأدلة". (انتهت الفتوى)
ويأتي الرد على هذه الفتوى من فتح الباري نفسه الذي اعتمدت عليه، قال ابن حجر:
"اختلف السلف في التحريق؛ فَكَرِه ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقًا؛ سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصًا، وأجازه عليُّ وخالد بن الوليد وغيرهم..."[فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لابن حجر:6/ 150].
قتل المصلين في المساجد
كما امتدت الفتاوى المحرفة التي تجرأ فيها الجماعات الإرهابية إلى قتل المصلين في المساجد واستباحة دمائهم، إلى احتلال المسجد الحرام في مكة، في أحداث الجيهمان الشهيرة، وكذلك تنفيذ عملية انتحارية في المسجد النبوي الشريف وقت الإفطار في شهر رمضان عام 1437هـ 2015م، إلى أن جاءت واقعة قتل 350 من المصلين الآمنين في مسجد الروضة بشمال سيناء.
وتستند الجماعة التي نفذت الجريمة الأخيرة إلى عدد من الفتاوى التي تجرأت على مساجد الله، واعتبرتها مساجد ضرار ينبغي تفجيرها بمن فيها.
وتنطلق الجرأة على مساجد الله من قاعدة تصدير التكفير في مؤلفات سيد قطب والمقدسي زغيرهما التي تعتبر هذه المساجد معابد جاهلية، يقول سيد قطب عنها
" اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي; وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح; وتزاول بالعبادة ذاتها نوعا من التنظيم في جو العبادة الطهور".
وذلك كله لأنه يعتبر أن "البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء.. البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: "لا إله إلا الله " بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثما، وأشد عذابا يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعد ما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله".