الطبقة الوسطى
قال لى قريبى «الدولة تهتم جدًا برعاية محدودى الدخل ولكنها لا تهتم بالطبقة الوسطى».. كنا نتحدث معًا عن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة وكيف سنتعامل معها.. الرأى نفسه قالته لى منذ شهور صديقة روائية كانت موظفة فى شركة عابرة للقارات قبل أن تتقاعد وتتفرغ للكتابة.. قالت «فى الماضى كان مرتب شهر واحد يكفينى لتغيير كل الأجهزة الكهربائية فى المنزل.. الآن هذا مستحيل»! سألت نفسى لماذا يحتاج الإنسان لتغيير كل الأجهزة الكهربائية فى المنزل مرة واحدة وبمرتب شهر واحد لكننى هززت رأسى وتفهمت شكواها.. ربما أعطت مثلًا خاطئًا لمعاناتها ولكن بالتأكيد تأثر وضعها المادى بعد إجراءات ضبط عجز الموازنة فى ٢٠١٦.. أنا نفسى من الطبقة الوسطى وأعرف أننى لو توقفت عن العمل شهرًا واحدًا فإن الأمور لن تكون على ما يرام.. المعاناة مفهوم نسبى والرضا كذلك، لذلك أتفهم حديث الأصدقاء عن معاناة الطبقة الوسطى المصرية، وهو حديث تجدد منذ أمس الأول بمناسبة حزمة إجراءات الحماية التى اتخذتها الدولة لحماية محدودى الدخل من آثار التضخم العالمى، الأمر يشبه شخصًا طبقه ملىء بالطعام وينظر لقطعة خبز يحصل عليها جاره ذو الطبق الفارغ.. لا تعليق لدىّ سوى أن الطبقة الوسطى الحالية أخذت نصيبها بالفعل من رعاية الدولة.. إذا سألتنى كيف هذا سأقول لك.. المصريون جميعًا منذ مائتى عام تقريبًا كانوا من الفقراء! كانت الثروة مركزة فى بعض الإقطاعيين والملتزمين من الأتراك والشراكسة، حتى حركة التجارة كانت فى يد التجار المغاربة والأروام، كما تدلك كتابات مؤرخى هذه الفترة.. ابتدأ المصريون جميعًا رحلة الصعود الاجتماعى مع محمد على باشا مؤسس الدولة الحديثة.. هذا الرجل وضع المصريين جميعًا على خط بداية واحد.. لأنه احتكر التجارة والزراعة والصناعة وبدأ يشكل الطبقة الوسطى المصرية بهندسة الدولة ورغبتها، الأذكياء والنابهون من العاملين معه منحهم «الأبعاديات» و«الأراضى» ليزرعوها وحقق بعضهم نجاحًا عظيمًا.. إذن فلو كنت من الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، وتنتمى لعائلة فلان باشا وعلان بك، فقد حصلت على نصيبك من الثروة والتميز الاجتماعى من الدولة المصرية الحديثة، ممثلًا فى إقطاع أراض ترتب عنه تراكم ثروات ووضع اجتماعى طوال عقود حتى وصلت إلى ما أنت عليه الآن، سواء كان خيرًا أو شرًا، من المصريين النابهين من أرسلتهم الدولة فى بعثات على نفقتها وعادوا ليؤسسوا عائلات ممتدة وأوضاعًا اجتماعية مميزة انتقلت لأحفادهم وأحفاد أحفادهم وهؤلاء أيضًا نالوا نصيبهم من رعاية الدولة المصرية ونالوا فرصة للترقى والصعود.. تعال نختصر الزمن ونقفز إلى الوضع الحالى.. أى شخص فى الأربعينيات حاليًا من الطبقة الوسطى هو فى الأغلب الأعم ابن لأب وأم تعلما تعليمًا مجانيًا فى الستينيات وتوظفا بعد التخرج مباشرة، هذا التعليم المجانى والمميز كفل للكثيرين جدًا فرصًا لـ«الإعارة» الرسمية فى دول الخليج فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى بأجور كريمة ومجزية تقابلها تكلفة حياة رخيصة فى مصر.. هذه هى قصة ملايين الأسر من الطبقة الوسطى فى مصر.. هذا الأخ الذى نال فرصة التعليم فى الخمسينيات والستينيات نالها لأن شقيقًا أو زميلًا أو جارًا له ضحى بفرصته فى التعليم، بعض الأسر كان يرسل ابنًا للتعليم ويترك الآخر ليعمل فى الأرض.. أو ربما بعض الجيران لم يكن لديهم الوعى أو القدرة لإرسال أبنائهم للتعليم المجانى نفسه.. هكذا كان الواقع فى مصر فقر مدقع.. وفلاحون لا يجدون قوت يومهم.. فى الأغلب الأعم.. هذا الأخ أو الجار الذى حرم من فرصة التعليم المجانى والترقى الطبقى فى الستينيات «ربما لأن مشروع الستينيات كله تم تقويضه» تدهورت أحواله أو بمعنى أصح لم يتمكن من تحقيق المكانة الاجتماعية التى حققها شقيقه أو جاره الذى حصل على فرصته من الدولة، وبالتالى فمن الطبيعى أن يتم التدخل لإنصافه حاليًا وتمكينه من فرص للحياة والنمو ربما تكون أقل من الفرص التى حصل عليها جاره أو زميله فى الستينيات أو السبعينيات.. أحد أوجه إحساس الطبقة الوسطى بالافتقاد للمزايا هى الطفرة التى حققتها هذه الطبقة منذ السبعينيات والتى هى الفارق بين مرتبات الخارج ونفقات الحياة المدعومة فى الداخل.. وقد مكنها هذا الفارق من إحراز مدخرات جيدة تم للأسف إهدارها فى شركات توظيف الأموال حينًا وفى اقتناء عقارات متعددة حينًا آخر وفى أنماط حياة استهلاكية حينًا ثالث ولم يتم تحويلها لمشاريع زراعية وصناعية إلا فى أقل القليل.. هذا الفارق بين الدخل العالى ونفقات الحياة المدعومة من الدولة أعاد إنتاج نفسه بدءًا من بداية الألفية ومن عام ٢٠٠٤ تحديدًا، حيث تضاعف حجم الاستثمارات الأجنبية مع مجىء حكومة د. أحمد نظيف التى عرفت إعلاميًا باسم «حكومة رجال الأعمال» وعمل الكثيرون فى فروع شركات وبنوك أجنبية فى القاهرة بمرتبات عالمية، بينما يستهلكون بنزينًا مدعمًا وكهرباء ومياهًا وسلعًا تموينية مدعمة ويتشاركون الدعم مع الفئات الأفقر والمحرومين ممن لم يتح لهم تاريخيًا نيل فرصة مساعدة الدولة لهم أو لآبائهم أو لأجدادهم، كما حدث مع الأكثر حظًا من أبناء الطبقة الوسطى.. كل ما حدث أن إجراءات خفض عجز الموازنة فى ٢٠١٦ أعادت توزيع الدعم بحيث يحظى به الأقل حظًا فى صورة دعم مادى ومسكن لائق وفرصة علاج وكأنها ترد دينًا تأخر على الدولة تجاه الأقل حظًا ممن لم يسعد الحظ أحدهم بقطعة أرض من الوالى أو بعثة تعليمية أو وظيفة حكومية فى الستينيات وكأن كله سلف ودين.. كما يقول المثل الشعبى.. هذا من وجهة نظر تاريخية وأخلاقية أيضًا، أما من وجهة نظر سياسية وأمنية أيضًا فإن إرساء قواعد العدالة وسد حاجة الجائعين وإعطاءهم أملًا فى غد أفضل هو أفضل ضمانة لأمن الطبقة الوسطى بجميع شرائحها لأنه ليس منا من بات شبعانًا وجاره جائع وهو حديث شريف يصلح لأن يكون قاعدة أمنية وسياسية أيضًا.. فأنت لا تستطيع أن تبيت آمنا وجارك جائع.. فيا عزيزى مواطن الطبقة الوسطى.. دعك ممن يفحون سمومهم فى أذنيك ويوغرون صدرك على حياتك وفكر فى ممارسة دورك التاريخى فى الابتكار وريادة الأعمال والتقدم بالمجتمع للأمام ووقتها ستتحسن أحوالك وأحوال المجتمع وأحوال الفقراء أيضًا وهذه هى النهاية السعيدة التى ننتظرها جميعًا.