«خطاب عصفور النقدي.. قراءات تأسيسية» جديد دكتور طارق النعمان
صدر عن دار العين للنشر والتوزيع، كتاب جديد بعنوان "خطاب عصفور النقدي.. قراءات تأسيسية"، من تأليف دكتور طارق النعمان. والذي يستهل مقدمة كتابه بمقطع من قصيدة الشاعر صلاح عبد الصبور، "مرثية رجل عظيم": كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَرَى النِّظَامَ فِي الْفَوْضَى، وأن يرى الْجَمَالَ فِي النِّظَام وكَانَ نَادِرَ الْكَلَام كأنَّه يُبْصِرُ بينَ كُلِّ لفظتينِ أكذوبًة ميّتًة يَخَافُ أن يَبْعَثَها كَلَامُهُ.
ويلفت "النعمان" في مقدمته للكتاب إلى: "في كتابه "تحديات الناقد المعاصر"، وفي نوع من القراءة الانعكاسية التي ينعكس فيها وعي الناقد على ذاته، يتماهى جابر عصفور على نحو صريح مع السطرين الأولين من قصيدة صلاح عبدالصبور "مرثية رجل عظيم"؛ مُطابِقًا هكذا بين رؤياه للعالم ورؤيا هذا الرجل العظيم، وأنه مثله تمامًا "يريد أن يرى النظام في الفوضى، وأن يرى الجمال في النظام".
وهو يُنْبِئُنا أن إعجابه بهذين السطرين وكثرة ترديده لهما، منذ أن قرأ هذه المرثية في عام 1970 في ديوان صلاح عبد الصبور "تأملات في زمن جريح"، لا ينحصر في مجرد إعجاب خالص من ناقد شاب لم يُكمِل الثلاثين بعد بشاعره المُفضَّل والأثير، وإنما يتجاوز ذلك ليُعبِّر "عن منحى معرفي تميل إليه شخصية هذا الناقد الشاب" هو منحى العقلانية التي لازمته على امتداد حياته، وأنه ظل يرى في هذين السطرين "أسلوب حياة وطريقة بعينها في رؤية العالم"، وأنه كان حقًا يريد، مثل هذا الرجل العظيم، أن يرى النظام في الفوضى، خصوصًا فوضى ما بعد العام السابع والستين، وأنه كان وكذلك ظل لا يتخيل الجمال إلا بوصفه نظامًا يعيد، على حد عباراته، "إلى ركام الأشياء معناها، أو إلى فوضى الأشياء مغزاها، فيفرض عليها معنى بعينه حين يضعها في نسق من دون غيره." (التشديد من عندي، عصفور، تحديات الناقد المعاصر، ص 7)
ويوضح "النعمان": هذا في الوقت ذاته الذي يُؤكِّد فيه وثاقة نسبه وانتسابه إلى التقاليد العقلانية التي ورثها من أجداده وآبائه وأقرانه من العقلانيين من أمثال طه حسين، ومحمد مندور، وصلاح عبد الصبور نفسه، وسواهم.
وبالطبع فإن مثل هذه الرغبة أو هذه الإرادة، إرادة رؤية النظام في الفوضى، لا بد لها من أن تُعْلِي مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع؛ ما دامت ستفرض على تلك الفوضى معنى بعينه، وستضعها في نسق من دون غيره، وهو ما يبدو وكأنه يتصادم ويتناقض مع أقانيم العقلانية التي يقدمها عصفور بوصفها المِفتاح الأساس لمجمل خطابه، والتي يُفْتَرَض فيها ألا تستسلم لمنطق الرغبة. وهو ما يدفع للتساؤل حول إذا ما كان يمكن لمبدأ الرغبة أن ينسجم أو يتوافق مع مبادئ العقلانية وأقانيمها، وأن يكون هذا الرجل العظيم الذي تصفه قصيدة عبد الصبور ممثلاً حقًا للعقلانية على نحو ما يُؤوِّله عصفور، وأن هذا هو سر إعجابه وترديده لهذين السطرين، رغم هذه الإرادة التي يتم فرضها على فوضى الواقع؟ إن هذا السؤال تتوالد عنه أسئلة عديدة أخرى حول طبيعة العقلانية ذاتها، وحدود علاقتها بكل من مبدئي الواقع والرغبة، ومدى نجاعتها على مستوى علاقتها بالواقع، في ظل كل هذا الحضور لمبدإ الرغبة، ومدى حضور المبدئين في خطاب عصفور النقدي، وسوى ذلك مما يتولد، بدوره عن تلك الأسئلة، إلا أن المجال لن يتسع لتناول هذه الإشكالية في قراءات هذا الكتاب بشكل كامل وتفصيلي؛ لكن التنبيه إليها، يظل مع ذلك، مهمًا؛ سواء بالنسبة لما آمل أن أجريه من دراسات وقراءات أخرى على خطاب عصفور النقدي أو ما قد يُجريه سواي من قراء ودارسين.