مثل الأفلام الساذجة.. كاتبة جادة وأبطال يخاصمون النمطية
الكاتبة ذات هم نسوى حقيقى وشخصياتها من لحم ودم وملامح حقيقية
تؤرخ فى أعمالها واقع المرأة من الطبقة الوسطى فى مصر حاليًا ويجب ألا تستسلم لإغراء النشر الغزير
«أطياف كاميليا» أكثر أعمالها نضجًا و«بنات الباشا» تجمع بين الحس الروائى والبورتريه الصحفى و«مثل الأفلام الساذجة» كانت تحتاج مزيدًا من الوقت لتنضج
لأسباب متعددة تراجع دور النقد الأدبى فى حياتنا الثقافية حتى أوشك على الغياب، حلّت مجموعات القراءة الممولة، وإعلانات الفيسبوك، ومنشورات المجاملة بين الأصدقاء، محل الآراء النقدية الرصينة والمحكمة، غاب صوت الناقد، الذى هو مزيج من العالم، والقاضى، والمبدع، وصاحب القدرة على العطاء.. فى حياتنا الأدبية الحديثة كان الناقد هو رب الكلمة ونبى المعرفة الناطق بالحق.. وهكذا فإن أسماء مثل عباس العقاد وطه حسين ومحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس ومحمد مندور وأنور المعداوى ورجاء النقاش وجابر عصفور وعبدالمنعم تليمة وعبدالعزيز حمودة.. ومحمد بدوى من الأجيال الأحدث.. كانت هى أصوات المعرفة، وكان دور الناقد هو الدور الأهم الذى مارسه ذوو الاهتمامات المتعددة منهم، فأهم ما فعله طه حسين هو دوره كناقد، وأهم ما فعله العقاد هو مشاركته فى كتاب «الديوان»، وأهم ما فعله رجاء النقاش هو تقديمه لمحمود درويش والطيب صالح عبر ممارسته دور الناقد.. أيًا كان الأمر.. فقد اختلطت الأمور مع كثرة الإنتاج الأدبى.. وتعدد الرؤى للكتابة نفسها، وشيوع نوع من الكتابة ذات الطابع التجارى تنشرها دور نشر كبرى، ويشيد بها بعض كبار الكتاب «صنع الله إبراهيم ومحمد المنسى قنديل» مثلًا، وزاد من ذلك أن المطابع باتت تطبع مئات الروايات أو ربما الآلاف سنويًا، دون إضاءات نقدية نزيهة، رغم بعض محاولات فردية لنقاد شباب لا تستطيع أن تجارى حجم ما تفرزه المطابع.. فى هذه الظروف يصبح الاهتداء إلى كاتب جيد عملية قدرية، تخضع للحظ والمصادفة حينًا، وللذائقة الشخصية حينًا آخر، وفى هذه الملابسات قرأت رواية «أطياف كاميليا» للكاتبة نورا ناجى منذ ما يقرب من عام ونصف العام، وأتبعتها برواياتها الأخرى «بنات الباشا» التى أعادت دار الشروق إصدارها بعد النجاح الذى صادفته رواية «أطياف كاميليا»، ثم قرأت آخر أعمالها وهو مجموعتها القصصية «مثل الأفلام الساذجة» والتى لم تكن من وجهة نظرى الخاصة فى قوة «أطياف كاميليا» ولا وضوح شخصيات «بنات الباشا».. بشكل عام يمكن القول إننا إزاء كاتبة موهوبة، تقدم كتابة جادة، تحمل همًا اجتماعيًا واضحًا، حيث تنطلق الكاتبة من اهتمام نسوى، لكنه ذو بعد إنسانى عام، لا يجتر مقولات اضطهاد المرأة فى الثقافة العربية والمصرية ليتاجر بها، أو يحولها لمادة غرائبية تسوغ ترجمة الروايات فى الغرب، أو منحها جوائز تشجيعًا لها بغض النظر عن مستواها الأدبى.. بالعكس تمامًا.. نحن إزاء كاتبة تملك همًا إنسانيًا عامًا، وتكتب عما تعرفه، وتطرق مناطق غير مستهلكة فى الروايات التى تعبر عن المرأة المصرية المعاصرة، ففى «أطياف كاميليا»، وهى أكثر الأعمال الثلاثة التى قرأتها نضجًا، تدور الأحداث فى مدينة كبيرة من مدن الدلتا، حيث البطلة فتاة متعلمة من جيل الثمانينيات، لديها أحلام فى أن تعمل بالصحافة فى القاهرة، وترتبط بعلاقة حب بصحفى قاهرى، وتعيش فى كنف أب مثل أى أب عادى، إنه ليس أبًا شريرًا، ولا قاسيًا بالمعنى التقليدى، لكنه مع الحبيب الأفاق والغادر، والأخ الذى هو مبدع محبط وغير متحقق ويغار من أخته الأكثر قوة وموهبة، مع الزوج الطيب والذى لا يحمل أى صفات للزوج القامع لزوجته.. هذا الرباعى من الرجال الذين لا يبدو على أى منهم ملامح الشر التقليدية يسحقون روح «كاميليا» الكبيرة أو عمة بطلة الرواية الشابة، ويحولونها من فتاة مقبلة على الحياة والعمل والحب إلى جثة تمشى على قدمين، كيان ميت يتنفس، روح معذبة وفاقدة القدرة على الحياة لا تجد حلًا بعذابها سوى أن تختفى، أو تنتحر، أو تفارق هذه البيئة التى قمعتها وعاقبتها على حلمها بالحب والعمل والتحقق والتى هى أحلام عادية ومشروعة لأى امرأة فى العالم، ونحن نستمع للرواية بصوت «كاميليا» الصغرى، ابنة شقيق كاميليا الغائبة، وأحد من قاموا بقمعها دون قصد أو بقصد، حيث تبدو الفتاة من الجيل الأصغر أكثر حظًا، وربما أكثر وعيًا، وتنجو بنفسها من المصير الذى لاقته عمتها.. والرواية مثل أى عمل كبير متعددة المستويات فى الحكى وموجزة، وتجمع بين جاذبية السرد ووضوح الشخصيات ووجود هم نسوى لا يتحول إلى عبء على الإبداع ولا على الشخصيات الروائية، ما يحافظ لها على طبيعيتها وصدقها الفنى وكونها شخصيات من لحم ودم لا نماذج تصطنعها الكاتبة لتفرغ فيها أفكارها عن قمع المرأة.. خبرة الكاتبة فى الصحافة تبدو جلية فى روايتها «بنات الباشا» التى أعيد نشرها مؤخرًا، والتى تعرض فيها لنماذج مختلفة وشائقة من النساء المصريات فى بداية العقد الأول من الألفية، حيث تدور الأحداث فى محل كوافير يقع أيضًا فى مدينة طنطا.. مدينة الكاتبة والمسرح الأثير للروايتين اللتين قرأتهما لها، والنماذج التى تعرضها الرواية هى نماذج تجمع بين كونها نمطًا وبين كونها حقيقية للغاية، وكأن الكاتبة تقول لنا إن الأنماط الشائعة أو «الاستريو تايب» ليست سوى قصص مكررة من الحياة تتحول إلى نمط حين نرويها دون تفاصيل دقيقة تكسبها إنسانيتها، وهكذا نرى فى الرواية عاملة نزع الشعر المثلية التى تهرب من أسرتها وتكبت ميولها خوفًا من المجتمع، والعشيقة المحجبة لصاحب الكوافير التى تتزوج زواجًا صوريًا حفاظًا على وضعها الاجتماعى وصورتها كامرأة عادية، وصاحب الكوافير نفسه الذى يبدو كشهريار عصرى ودون جوان وضيع يستغل فقر العاملات لديه وأوضاعهن الاجتماعية السيئة، رغم أن أصوات الرواية لا تدينه ولا تسبه، ولكنها تترك للقارئ اكتشافه والحكم عليه كبشر لا كنمط، وإذا انتقلنا للمجموعة الأخيرة لنورا ناجى وهى «مثل الأفلام الساذجة» فسنجد أن بها ميزة وعيبًا، أما الميزة فهى أن الكاتبة تواصل الكتابة عن مناطق خبرتها وعن تلك الأنماط التى عرفتها فى مدينتها الكبيرة فى الدلتا، وهى منطقة بكر فى الكتابة، خاصة أنها تعبر عن هموم المرأة المصرية حاليًا وفى العقد الأخير بكل حساسية وضعها وارتباك المجتمع إزاءها، ضمن ارتباكه عمومًا، والتغيرات الحادة التى يمر بها، أما العيب فهو أن بعض أبطال قصص المجموعة يتشابهن مع أبطال روايات نورا ناجى القديمة، وكأنها تقوم بعملية نسخ أو إعادة إنتاج البطلات اللاتى شغلن حياتها وعالمها.. والعيب الثانى هو أن بعض قصص المجموعة لا ينطبق عليها الوصف الفنى للقصة القصيرة التى هى تجسيد فوتوغرافى للحظة واحدة تكشف الكثير والكثير.. فى «مثل الأفلام الساذجة» نصوص عابرة للنوعية، بعضها قصص، وبعضها روايات مختصرة، وبعضها كتابة غير مصنفة، وهى سمة تشيع فى عدد من المجموعات القصصية التى صدرت أخيرًا، لا يمكن اعتبارها عيبًا ولا ميزة، ولكنها سمة تتكرر وتحتاج إلى بحث نقدى مستقل.. بشكل عام يمكن القول إننا إزاء كاتبة كبيرة وجادة، تحتاج للتأنى، وعدم الخضوع لشهوة النجاح الجماهيرى وكثرة النشر، وعليها عدم التقيد بضرورة إصدار عمل جديد كل عام إلا إذا تأكدت أن العمل يضيف لها خطوات جديدة على الطريق الذى خطته لنفسها، وهو طريق جاد يستحق الاحتفاء به وانتظار مزيد من الخطوات عليه.