حفلة تنكرية
ما أعتقده جازما هو إنه "التواصل الاجتماعي"، أيا كانت طريقته وآلياته، هو محاولة إيجاد بنود مشتركة في أجندات مختلفة.
حضرتك وأنا وهو وهي، وهم وهن وأولئك وهؤلاء، كل فرد منا له "أجندة"، واسمحوا لي أستخدم الدال دا لـ مدلول عام يشمل المشاعر والأفكار والمواقف والميول والأهواء والأولويات.
أجندة كل شخص منا نابعة من حياته، وحياته، زي أي مفهوم، قد يكون غائم وغامض، ما تقدرش تحدد "حياة" الشخص؛ احتياجه إنه يهرش جزء من حياته، اكتشاف ثقب أسود على بعد عشرتاشر مريار سنة ضوئية كمان جزء من حياته.
لكن دا ما يمنعش برضه إننا نحاول نوصل لـ حد أدنى من تماسك المفهوم، وفي حدود قناعاتي أنا بـ أشوف حياة الإنسان في إطار الاحتياجات والرغبات والمخاوف، وعمري ما شفت حاجة بره التلاتة دول: تلبية الاحتياجات، إشباع الرغبات، تبديد المخاوف.
الحاجات دي مش عشوائية ولا صدفة، بـ العكس ليها نظام صارم ودقيق، حتى لو كانت تجلياته مش كدا.
فيه حاجات كتير هنا ممكن نتكلم عنها، لكن يهمني منها نقطتين:
الأولى، ما نسميه "حياة" الشخص، لا تتشكل ملامحه ومكوناته بين يوم وليلة، ولا فجأة، ولا على كبر، إنما بـ تتكون واحدة واحدة، ومعظمها بـ يتشكل في سنواته الأولى، بعدين يبقى فيه صعوبة شديدة لـ إضافة مكونات جديدة، وفي الأغلب العام كل ما تظنه جديدا في حياتك هو موجود منذ صباك، ربما بـ صورة أخرى، أو ربما لم يجد فرصة لـ إعلان نفسه؛ حياتنا أكثر استقرارا مما نظن بـ كتير.
النقطة التانية، محدودية الحياة مهما بدت متسعة، مفيش حد حياته فيها كل الكون، ولا كل الكرة الأرضية، ولا كل البشر، ولا كل المجالات. بل العكس حياتك هي نقطة صغيرة لا ترى بـ العين المجردة في محيط هائل: مليارات البشر إنت ما تعرفش عنهم حاجة، مش بـ أقول مش مهتم، لا، إنت ما تعرفش حاجة أصلا، وما عندكش قدرة تعرف، ولا عندك رغبة، حياتك يا صديقي محدودة جدا، بـ قدر ما إنت نفسك محدود.
طيب! من حياتك بـ تتكون أجندتك، وبنود أجندتك مختلطة ومتداخلة، لـ إنها مرهونة بـ واقعك، اللي إنت مش بـ تديره بـ صورة كافية، مهما امتلكت من أساليب القوة كـ المال والنفوذ والقوة البدنية، فـ أديك عايش، بـ تقاتل 24 ساعة تقريبا، وعمال تتنقل بين البنود دي الخاص منها والعام، ولا حد خالي من الهم/ حتى قلوع المراكب.
ولكن!
تقدر تقول المقال هـ يبدأ هنا، بعد "ولكن" دي.
ولكن فيه ما يشبه القاعدة عند الإنسان، وهي إنه المشاعر الإيجابية لما بـ تتقسم على اتنين (أو أكتر) تزيد، بينما المشاعر السلبية لما تتقسم على اتنين (أو أكتر) تقل.
من هنا، بـ يبقى الإنسان محتاج "تواصل اجتماعي"، محتاج تشارك في بنود الأجندة دي، ولولا المشاركة دي ما تحمل أحد حياته.
بـ المناسبة، حتى الانطوائي أو المنعزل أو ما شابه، عنده هذا الاحتياج الملح، لكن إما هو مش قادر عليه، ودا بـ يسبب له أمراض نفسية صعبة، أو إنه حلها بـ طرق أخرى، ممكن يتدخل فيها خياله، لكن تشارك الأجندات دا ضروري.
طبعا الاحتياج لت التشارك بـ يكون في بنود من الأجندة دي، لـ إنه فيه بنود كتير برضه ما يحبش يشارك حد فيها بتاتا، أو يخاف أو يخجل.
المهم، السؤال الآن:
هل البشر فعلا بـ يعملوا كدا؟ بـ يمارسوا هذا التواصل الاجتماعي؟
الإجابة:
نعم، طبعا.
لأ، طبعا.
يعني بـ يعملوه بـ كل جوارحهم، لكن مش بـ يعملوه نهائي.
إزاي؟
خليني أقول لك شايف الموضوع إزاي: أغلب الناس اللي بـ أشوفها، ودا حتى من قبل فيسبوك، لما تيجي تتواصل، لا تشارك بنود من أجندتها مع آخرين، إنما تبذل محاولات كبيرة لـ البحث في أجندات الآخرين عما قد يتشارك مع بنود أجندتها.
يعني، أنا أجندتي فيها "س" و"ص" و"ع" و"ل"، لما آجي أتواصل، المنطقي بـ النسبة لي إني أشوف مثلا "س" صالحة لـ المشاركة، فـ أطرحها.
أطرحها على قريب/ صديق/ معرفة، أو حتى على المجال العام.
هو كمان الصديق/ المعرفة/ القريب عنده في أجندته "أ"، و"ب" و"ج" و"د"، فـ هو هـ يطرح "أ" مثلا، كدا هـ يحصل التواصل كما أفهمه، "س" من عندي هـ تتلاقى مع "د" من عنده، ونوصل لـ منطقة مشتركة جديدة هي "و". "أ" من عنده هـ تتلاقى مع "ع" من عندي، ونوصل لـ منطقة مشتركة، وهكذا وهكذا.
لكن دا مش بـ يحصل، اللي بـ يحصل، إنه الإنسان بـ يخبي "س" و"ص" و"ع" و"ل" كلهم، كلهم كلهم، ويستنى منك تطرح "أ" و"ب" و"ج" و"د"، فـ لما إنت تطرح "أ"، هـ يلاقيها سمّعت عنده في "ع"، فـ يبدأ التواصل.
مش عارف إذا الصورة واضحة ولا لأ، إنما دا ممكن يحصل، لو طرف واحد عمل كدا ممكن التواصل يتم، وواحد منهم فقط حاجب بنود أجندته، لكن لما الطرفين يعملوا كدا، يحصل إيه؟
بـ الظبط اللي حضرتك بـ تشوفه، يحصل تريند، ليه؟ عباس مخبي أجندته خوفا أو أو خجلا أو بخلا، أو عدم إجادة طرح، وحسين كذلك، ومينا وميخائيل وصمويل، فـ يحصل فراغ.
الفراغ دا محتاج يتملي وفيه ناس محترفة ملء هذا الفراغ، إما لـ أغراض، أو حتى لـ مجرد الانتشار، والمكسب المباشر منه، يطرح موضوع ما خارج اجندة 99% من البشر، وهو يجيد نشره على نطاق متسع قليلا، فـ كرة التلج تبدأ.
عباس هـ ياخده على إنه هو البند اللي مستنيه من الطرف الآخر، وحسين كمان هـ يتلقفه، فـ محمد يلاقي حسين وعباس بـ يتكلموا في نفس الموضوع، فـ ينضم، بقوا 3، خمسة، عشرين، خمسين ....
كل ما كبر الرقم بقت فرصة إنه يكبر أكتر، يعني لو فيه 3 بـ يتكلموا في موضوع ما، فرصة إنك تبقى رقم 4 قليلة، لكن لو خمسين بـ يتكلموا فيه، فرصة إنك تبقى 51 أكبر بـ كتييييير، ولو بقوا 500 فـ فرصة إنك ما تبقاش 501 شبه منعدمة.
لكن الموضوع بدأ لما 3 خدوا موضوع بره أجندة حياتهم وتناولوه، فـ بدا كما لو كان موضوعا صالحا لـ التشارك فيه، ثم "بدا" دي هـ تبقى "طبيعي" نتشارك فيه، ثم "طبيعي" دي هـ تبقى "أكيد" صالح لـ التشارك، وممكن يصل الأمر إلى إنه "واجب مقدس" نتشارك فيه،.
بس هو فعليا خارج أجندة حد فينا. طب نعمل إيه؟ بسيطة، كل واحد فينا هـ يدخل التريند في أجندته غصب واقتدار كدا، فـ يعلق ويحلل ويستنتج، ويكتب حاجات مالهاش دعوة فعلا بـ الموضوع اللي تحول لـ تريند.
بس هو ممكن ما يعرفش يعمل كدا؟ دي أبسط، هـ يغش من حسين، حسين كاتب تعليق/ تحليل/ حكمة، وحسين دا أساسا متشارك معايا في بنود من أجندتي، أنقشه منه كوبي بيست، أو حتى أعمل شير، كله سهل.
طيب، هل دا تواصل اجتماعي؟
أيون
لأ
أيون جدا جدا جدا، ولأ أبدا أبدا أبدا.
أيون، لـ إنه الناس فعلا بـ تتواصل. ولأ، لـ إنهم بـ يتواصلوا بـ حاجات مالهاش دعوة بيهم، ولا بـ الموضوع اللي بـ يتكلموا عنه.
القصة عاملة زي حفلة تنكرية عبد السلام عامل نفسه روميو، وزكية عاملة نفسها جولييت، وإنت قاعد تبص لهم، وهـ تموت من الحزن والقهرة، إنهم هـ ييجوا في آخر الحفلة، وينتحروا.