مصر وكوريا.. وصل ما انقطع
السمة الأساسية للسياسة المصرية فى عهد الرئيس السيسى هى «التناغم» و«الاستدامة» حيث تقود كل الخطوط إلى بعضها البعض، وتبدو الخطوات كلها مثل حبات فى عقد واحد، أو حلقات متصلة فى سلسلة طويلة، على مستوى السياسة الخارجية ثمة نظرة فاحصة للعالم، وعين تبحث عن قوى بازغة جديدة لتمتين الجسور معها، ووعى بضرورة تنوع التحالفات القائمة على المصلحة المشتركة مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع الجميع.. فى هذا الإطار يمكن فهم تمتين العلاقات مع كوريا الجنوبية وهى نمر آسيوى تحول إلى مارد، بالمخالفة لحقائق الجغرافيا والموارد الطبيعية، يتشابه البلدان فى أنهما حصلا على الاستقلال فى وقت قريب، بعض الكتابات التى تحترف الرثاء للذات، تتحدث عن طلب الكوريين الاطلاع على التجربة المصرية للتصنيع فى بداية الستينيات، وكان ذلك متزامنًا مع تبادل التمثيل القنصلى بين البلدين، كانت مصر تحلم بنهضة كبيرة أجهضتها نكسة يونيو، فى حين واصلت كوريا طريقها، ساعدها الظرف الدولى الراغب فى دعم النموذج الكورى الجنوبى ليظهر الفارق بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، تدفقت استثمارات غربية مع تسامح فى نقل التكنولوجيا وتكفل الكوريون بالباقى، نهضت الشخصية الكورية وهى بنت حضارة عريقة تؤمن بالعمل وتحيا وفق فلسفة روحية خاصة، كان هناك شوق تاريخى ليثبت الكوريون أنفسهم بعد سنوات طويلة كانت الدولة الصغيرة عرضة لاحتلالات من جارين عملاقين هما الصين، واليابان، رغم صغر مساحة كوريا «أقل من مائة ألف كيلو متر مربع»، وعدم وجود أى موارد طبيعية، وعدد السكان المتوسط «٥٥ مليونًا» حاليًا، صنع الكوريون أسطورتهم الخاصة منذ بدء الثمانينيات، بعد سنوات طويلة من العمل بدأ العالم ينتبه لهذا المارد الصامت، حققت صناعات السيارات، والإلكترونيات، اختراقًا فى الأسواق العالمية، وكانت تحكمها فلسفة خاصة، تقول إنها موجهة للفقراء، منتجات أقل سعرًا، بجودة جيدة، تلبى أحلام الأقل ثراءً فى ركوب سيارة، أو اقتناء تليفزيون، أو جهاز محمول متطور.. آخر عشر سنوات شهدت توهج الأسطورة الكورية، استطاعت شركة سامسونج أن تنافس آبل الأمريكية على قمة تكنولوجيا الكمبيوتر- المحمول، بأسعار أرخص، وبتكنولوجيا خاصة بها، وبنظام تشغيل منافس هو «آندرويد»، الوجه الثانى للأسطورة هو أن كوريا قدمت نفسها كحضارة منتجة للفنون والمعرفة، وليس كدولة صناعة عادية مثل فيتنام، أو إندونيسيا أو ماليزيا، مع كل الاحترام لهذه الدول الناجحة، فى السينما وصل الكوريون لمستوى عالمى، وفاز أحد الأفلام الكورية بجائزة الأوسكار، فى الدراما تحول مسلسل «لعبة الحبار» الكورى لظاهرة عالمية وحقق أعلى معدلات مشاهدة على أشهر منصة للمشاهدة فى العالم، أما فى الموسيقى فقد تحول فريق الـ«بى تى سى» إلى صرعة عالمية يتابعها عشرات الملايين من الشباب فى العالم، بالإضافة لمؤشرات تعليم عالية جدًا، ومنح يتم التوسع فى منحها لطلاب العالم فى الجامعات الكورية، فى هذه الظروف يبدو مد الجسور بين مصر وكوريا خطوة سياسية عملاقة وواعية، تدل على يقظة ووعى وحس سياسى عظيم تتمتع به القيادة المصرية.. أما استجابة الطرف الكورى، وترحيبه فيدل على أنه يجد فى مصر بيئة واعدة، وحصانًا أسود يستعد للانطلاق، وفى زيارة الرئيس الكورى «مون جيه إن» لمصر فإنه لم يكتف بالطقوس الدبلوماسية، لكن الرئيسين أعلنا عن حزمة من إجراءات التعاون، منها تمويل كورى لمشروع قطار الصعيد السريع بمبلغ ٢٥٠مليون دولار، وهو مشروع سيغير وجه الحياة فى الوجه القبلى وجنوب مصر وشمال السودان للأبد، والأهم من التمويل الكورى هو التكنولوجيا الكورية فى مجال النقل والسكك الحديد، وهى كما يبدو متقدمة للغاية، من خطوات التقارب أيضًا منحة كورية لا ترد لتنمية مشاريع التنمية فى مصر، والأهم هو توطين التكنولوجيا الكورية فى مصر للاستفادة من موقعها، وتدفقات الطاقة فيها، وكونها سوقًا ضخمة، لديها ما تقدمه للآخرين وما تستورده منهم أيضًا، مصر لديها فوائض من الطاقة التى تضن بها الطبيعة على كوريا، وهو ما يجعل نقل بعض الصناعات الكورية لمصر أمرًا عمليًا، فضلًا عن سهولة التصدير لأوروبا عبر موانئ البحر الأبيض، وقطار السخنة العلمين، ارتفاع مستوى الحياة فى كوريا يجعل هناك زيادة فى تدفقات السياح الكوريين لأنحاء العالم المختلفة ومن بينها مصر، ويجعل مناقشة الاستثمار فى مجال السياحة أمرًا منطقيًا أيضًا، فضلًا عن ميل كورى لتقديم مساعدة فى تنفيذ مشروع حياة كريمة انطلاقًا من إحساس كوريا بدورها كمارد اقتصادى جديد، يرغب فى لعب دور على مستوى العالم، وهو أمر لم تفوته مصر وسعت للتعامل معه باحترافية وقدرة عالية على اقتناص الفرص ومد الجسور.