رجل الإصلاح
كل قرار يتخذه الرئيس السيسى، وكل يوم يمر عليه فى الحكم، وكل مشروع يتبناه، وكل مبادرة يوافق عليها تدل على أنه أهم إصلاحى فى تاريخ مصر الحديث، إن الإصلاح هنا ليس هو المعنى الدينى والأخلاقى الشائع والمستمد من «الصلاح» وإن كان الرئيس يتمتع بالصفات المرتبطة بهذا المعنى، ولكنه مصطلح سياسى يعبر عن أحد طريقين لا ثالث لهما لتغيير المجتمعات والنهوض بها.. أما الطريق الأول فهو طريق «الثورة» الذى يعنى هدم ما هو موجود بالكامل وإعادة البناء من جديد.. أما «الإصلاح» فهو يهدف إلى تحقيق نفس أهداف النهضة من داخل بناء الدولة، ومع الحفاظ على مؤسساتها المختلفة، وتطويرها، وتحديثها، وتلافى العيوب التاريخية التى تعوق أداءها، فضلًا عن محاربة الفساد والبيروقراطية، والترهل، والسعى الدائم للتحديث.. والحقيقة أن الرئيس السيسى هو ابن الدولة المصرية بالمعنى السياسى والوظيفى أيضًا، فهو ابن القوات المسلحة المصرية، أقوى مؤسسات الدولة وصاحبة الدور الأكبر فى رسم تاريخها السياسى منذ ثورة يوليو ١٩٥٢، وهو يدرك ضرورة الإصلاح بنفس القدر الذى يدرك فيه خطورة هدم الدولة ومؤسساتها بذريعة بنائها من جديد، ويقينه بأن الهدم لن تعقبه إعادة بناء، وإنما مزيد من الخراب والضياع للأرض والمواطنين على السواء.. والحقيقة أن كل تجارب «الثورة» الشاملة، بمعنى هدم النظام كليًا فشلت فى مصر، فالثورة العرابية هزمت عسكريًا وأدينت شعبيًا، واعتذر قائدها نفسه عن تصرفاته، ولم يتم رد الاعتبار لها إلا بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، والفشل هنا بمعنى أنها عجزت عن تحقيق أهدافها، أما ثورة ١٩١٩ فقد حققت أهدافًا جزئية، جعلتها أقرب لحركة نهضة إصلاحية، ظهرت آثارها فى الفن، والثقافة، والاقتصاد، وإقرار نمط حكم دستورى ملكى، لكنها لم تهدم النظام السياسى القائم، ولم تؤد لاستقلال كامل، الثورة الوحيدة التى نجحت كانت حركة من داخل الجيش المصرى أحد أهم مؤسسات الدولة تجاوب معها الشعب، وهى بالتأكيد حركة إصلاحية عنيفة، حافظت على مؤسسات الدولة مع تغيير الطبقة الحاكمة والسياسات الاجتماعية، والتحالفات الدولية، مع خطط تنموية طموحة لم يُكتب لها الاستمرار بعد نكسة يونيو ١٩٦٧.. والمعنى الذى أقصده أن الإصلاح كان دائمًا أوفر حظًا فى تحقيق النتائج على الأرض، وهى حقيقة أدركها الرئيس الذى بكل تأكيد لم يكن راضيًا عما آلت إليه أوضاع الدولة المصرية قبل يناير ٢٠١١، تمامًا كما أنه لم يكن راضيًا عن محاولات هدم الدولة المصرية بعد يناير ٢٠١١، ولعل هذا الإدراك التاريخى لأن الأوضاع كانت تستحق التغيير بالفعل، والإدراك الآخر الواقعى والأمنى والوطنى بأن هدم الدولة لن يؤدى للتغيير، بل إلى الخراب.. هذا الإدراك لكلتا الحقيقتين هو الذى صاغ رؤية الرئيس الإصلاحية.. حيث يمكن ببعض التبسيط القول إنه يحقق أهداف الثورة عن طريق الإصلاح، والمقصود بأهداف الثورة هنا هى أحلام النهوض والتقدم ومحاربة الفساد والعدل الاجتماعى بمعناه العام والإنسانى.. الملامح العامة للرؤية الإصلاحية تعبر عن نفسها فى مجموعة من الخطوط العامة، منها الانخراط فى مخطط واسع لتحديث نظم الحكم فى الدولة المصرية، ومنها تمكين الشباب ومطاردة الشيخوخة التى كانت قد دبت فى أوصال الدولة المصرية وتمكنت منها، ومنها إطلاق سراح العشرات من خطط التنمية التى وضعت بعضها مؤسسات دولية وبعضها الآخر مؤسسات وطنية، وتسخير كل الإمكانات بتنفيذها دون الخوف من شبح الديون، هذه الجرأة تستند لعدة اعتبارات، منها اعتبار اقتصادى يقول إن كلفة إنجاز المشروعات اليوم أقل من كلفة إنجازها غدًا، وبالتالى لا بد من سرعة الإنجاز، ومنها اعتبار فكرى يرى أن التمويل العالمى للتنمية فى العالم الثالث هو حق لمواطنى هذا العالم وأننا لا يجب أن نحجم عن استخدام هذا الحق خشية الغرق فى الديون فالظروف السياسية تتغير، لكن المشروعات على الأرض تبقى، من هذه الاعتبارات أيضًا إدراكه أن مشاريع التنمية لا بديل عنها لتحقيق انطلاقة اقتصادية لمصر، ومن ثم فمهما زادت كلفتها هى استثمار ضرورى ولا بد منه وتعوض تكلفته عائدات النجاح بإذن الله، من الخطوط العامة لهذه الرؤية أن مصر جزء من العالم، لا تخاصمه، وتندمج معه لأقصى درجة، لكنها فى نفس الوقت لا تنسحق أمام القوى المهيمنة عليه، وتحتفظ بتفسيرها الوطنى لأولويات مثل حقوق الإنسان والخصوصية الثقافية والحق فى التنمية، من ملامح هذه الرؤية تعامل صارم مع الفساد، واحترام بالغ للاستثمار الخاص طالما كان بعيدًا عن شبهات الفساد، أو استغلال أصول الدولة، أو التعاون مع مسئولين فاسدين، وهو ما يعد إعادة للشىء إلى أصله، وتقويمًا لاعوجاج شهدته مصر خلال العقد الأخير من حكم الرئيس الأسبق، ما أدى إلى اضطراب الأوضاع ومآلها إلى ما آلت إليه، وفى ظنى أن الكثير من الدوائر التى تصف نفسها بـ«المعارضة المدنية» تخطئ أكبر الخطأ حين تقرأ شخص الرئيس السيسى على أنه امتداد لنظام الحكم قبل يناير ٢٠١١، وأن هذا الخطأ تقع فيه أيضًا أطياف من الذين يحسبون أنفسهم من المؤيدين للرئيس أو الدولة المصرية بشكل عام، وأظن أن الرئيس السيسى امتداد للدولة المصرية الحديثة التى أسسها محمد على الكبير ١٨٠٥، والتى تحولت سياساتها بحركة إصلاحية من داخلها فى يوليو ١٩٥٢ والتى أسست جمهورية تراجعت أحوالها بمرور السنوات حتى جاء الرئيس السيسى باختيار الناس بعد ثورة ٣٠ يونيو ليقود الموجة الإصلاحية الثالثة فى تاريخ الدولة المصرية، ويؤسس الجمهورية الجديدة أو الجمهورية الحديثة، وهى طبعة إصلاحية من الدولة المصرية الحديثة التى أسسها محمد على، وأظن أن الرئيس وهو دارس محترف لتاريخ مصر استوعب الأخطاء التى أدت لتقويض التأسيس الأول على يد محمد على، والتأسيس الثانى على يد جمال عبدالناصر، رغم أنه جاء فى ظروف اقتصادية أسوأ بكل تأكيد، لكنه فيما يبدو يسعى لتطبيق المثل المصرى الذى يقول «التالتة تابتة»، وأن محاولة المصريين الثالثة لتحقيق النهضة باتت أقرب إلى التحقق بإذن الله.. وهو ما نأمل فيه جميعًا وندعو الله أن يساعده على تحقيقه بعونه وقدرته وخفى لطفه.