لا لقمع النساء
خطت ثورة ٣٠ يونيو خطوات واسعة فى طريق إنصاف المرأة المصرية، أدرك الرئيس السيسى أن المرأة المصرية بميراثها الحضارى عدو طبيعى لثقافة التشدد والطبعة المتنطعة من الدين التى قمعتها وسلبتها حقوقها وغيّرت أحوالها خلال الأربعين عامًا الأخيرة من حكم مصر.. تغيّر الخطاب السياسى فى اتجاه مزيد من الإجلال للمرأة المصرية والاعتراف بدورها، وأصبح الرئيس يصف المصريات بأنهن "عظيمات مصر".. على مستوى التمكين السياسى تم اتخاذ خطوات واسعة واحتلت النساء مقاعد وزارية هامة وفارقة، وانتهى زمن تعيين المرأة فى الحكومة على سبيل "التمثيل المشرف" أو اعتبار مناصب النساء التنفيذية شكلًا دون مضمون.. ما حدث فى السلطة التنفيذية حدث فى السلطة التشريعية، حيث ارتفع عدد العضوات النساء فى مجلسى النواب والشيوخ إلى أضعاف ما كان عليه فى عهود سابقة تطبيقًا لنصوص الدستور وقوانين الانتخابات، نفس الأمر حدث أيضًا فى السلطة القضائية التى تم القضاء على كل مظاهر التمايز بين الجنسين فيها تدريجيًا، حتى أصبح من حق النساء التقدم لشغل وظيفة وكيل النائب العام، فضلًا عن العمل فى مجلس الدولة والنيابة الإدارية وكافة الهيئات القضائية.. ورغم روعة ما تحقق وسرعته، إلا أن الواقع يقول إن أمامنا الكثير.. ما أقصده أن هذه الإصلاحات هى إصلاحات فوقية، قامت بها الدولة تطبيقًا لقواعد المساواة ومواثيق حقوق الإنسان ولتاريخ مصر الحضارى وللفهم الصحيح للشريعة، لكنها تبقى مع ذلك إصلاحات من القمة.. هذه الإصلاحات استفادت منها النساء والفتيات المتعلمات اللاتى قطعن شوطًا فى مضمار التعليم والترقى الاجتماعى.. خطوات إنصاف المرأة رفعت الظلم عن المتميزات اللاتى كن يُحرمن من العمل السياسى أو القضائى لاعتبارات لها علاقة بثقافة التمييز فى المجتمع.. لكن واقع الحوادث التى نطالعها يوميًا يقول إن المرأة المصرية العادية ما زالت تعانى الكثير، تواجه المرأة المصرية ضغوطًا متعددة أسهمت فيها ثقافة التدين المغلوط التى غزت مصر لاعتبارات إقليمية وسياسية منذ السبعينيات، هذه الثقافة قضت على موجة تحديث كانت قد بدأت منذ ثورة ١٩١٩ ودعمتها ثورة يوليو فى المجالات الاجتماعية، لم يحدث ارتداد فقط للثقافة الذكورية التقليدية التى عبّر عنها الأستاذ نجيب محفوظ بعلاقة "سى السيد- الست أمينة".. لكن تم تحميل هذه الثقافة التقليدية بحمولات أصولية وصحراوية معادية للمرأة، وكارهة لها، ترى فى قمعها وإهانتها أفضل وسيلة للسيطرة عليها، هذه الثقافة المتطرفة لها جذور تاريخية لدينا، لكنها توحشت وتسلفت، وفقدت أى إطار أخلاقى يحكمها، ليصبح العدوان على المرأة هو الطابع السائد لدى بعض قطاعات الثقافة الشعبية، هذه الثقافة تسللت لبعض المسئولين التنفيذيين لدينا ليختلط لديهم الأمر بين الحفاظ على الأخلاق العامة وبين قمع الآخرين والخلط بين ما هو عام وما هو خاص.. مؤخرًا تم نشر أخبار عن فصل مُدرسة متطوعة لأنها رقصت فى رحلة ترفيهية نظمتها نقابة المعلمين فى المحافظة التى تعمل بها.. الرقص فى حد ذاته ليس عيبًا سوى فى ثقافات معينة تعادى الجسد، وهو له تعريفات متعددة، فرقة رضا ظهرت فى الستينيات لتسجل رقصات المصريين الشعبية وتحميها من الاندثار، أهل الشام يرقصون "الدبكة" فى أعيادهم واحتفالاتهم القومية، الإخوة فى الخليج يرقصون رقصة "العرضة" ويشارك فيها رجال القبائل وزعماؤها، لأنها رقصة قومية، الرقص قد يكون تعبيرًا عن الفرح أو البهجة، وقد ينحرف ليكون الغرض منه إثارة الغرائز، وبالتالى كان على مديرية التعليم التابعة لها المُدرسة أن تحيل المقطع المنسوب لها لجهة فنية لتبدى رأيها، هذه الجهة قد تكون قطاع الفنون الشعبية فى وزارة الثقافة، أو الرقابة على المصنفات الفنية، أو غيرها، والمعنى ألا يكون القرار خاضعًا للهوى الشخصى للمسئول الذى أصدره، أو للضغط السياسى من مدرسى المحافظة الذين من الطبيعى أن يكون بينهم متطرفون، ومتزمتون، يرفضون الرقص من حيث المبدأ بغض النظر عن نوعه أو الهدف منه، والحقيقة أن الخلط بين الفن وبين انعدام الأخلاق هو من علامات غياب الثقافة عن أى مجتمع، فلا يمكن أن ينظر شخص إلى لوحة "الجيوكندا" مثلًا فلا يلفت نظره سوى أنها غير محجبة!!، أو يرى شخص لوحة "نساء بحرى" لمحمود سعيد فلا يلفت نظره سوى الملاءة اللف الضيقة، هو فى هذه الحالة شخص مريض، المشكلة فى عقله هو وليس فى أى شىء آخر، تتضاعف مأساة ثقافة القمع مع ظاهرة أخرى هى ثقافة التلصص، هناك جانٍ تلصص على هذه المُدرسة، وصورها بدون إذن، وأذاع التسجيل الذى صوره، وتسبب فى انهيار حياتها المهنية والشخصية، هذا الجانى من السهل تتبعه، ولابد من عقابه، سواءً تقدمت الضحية ببلاغ ضده أو لا، فعلى السلطة العامة فى المجتمع أن تواجه ثقافة التلصص، وأن تعاقب من يتلصص على الآخرين أشد العقاب، ملمح آخر من ملامح قمع المرأة عبّر عنه خبر إقدام زوج المُدرسة على تطليقها عقب انتشار الفيديو، وهو ما يفتح المجال للسؤال عن ثقافة المساندة والتآزر، والثقة فى النفس، والثقة فى الشريك.. وهى كلها مشاكل اجتماعية عميقة تراكمت عبر سنوات من غياب الوعى والرشد عن حياة الناس اليومية، تبقى المفارقة فى أن هذه السيدة عوقبت بشدة لأنها ارتكبت فعلًا علنيًا بحسن نية، فى حين أنها لو قامت بجريمة أخلاقية فى مكان مغلق، وخرجت على الناس تدعى التقوى وتتظاهر بها لانحنى لها الجميع احترامًا!!.. مفارقة تستحق التأمل.