رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البحث عن محمود العربي

 

ثلاثة أسباب قادتنى للكتابة فى هذا الموضوع.. أولها وأهمها ما قاله الرئيس السيسى فى افتتاحات قنا بالأمس حول ضرورة مساعدة المصانع غير المرخصة، وعدم تجريم أصحابها، وإدخالهم فى الاقتصاد الرسمى أو «مساعدتهم» على حد تعبيره.. وثانيها هو عرض لبحث أجراه عمرو عدلى مدرس الاقتصاد فى الجامعة الأمريكية يقول فيه إن الرأسمالية الصغيرة فى بلادنا مطحونة، ولا فرص لديها للنمو.. حيث استأثر رجال الأعمال الكبار فى زمن سابق بفرص النمو مثل تمويل البنوك لمشاريعهم «بعضهم كان يحصل على قروض بالأمر المباشر»، أو بمنحهم أراضى الدولة بسعر شبه مجانى ليقوم بعضهم بـ«تسقيعها» وتحويلها إلى مليارات بعد سنوات قليلة، أما الذين لا واسطة لديهم، ولا علاقة شراكة بمسئول فى ذلك الزمن فإنهم يصارعون الأمواج وحدهم، وقد ينجو البعض منهم، وقد يغرق آخرون ما دامت الفرص كلها تستأثر بها قلة من رجال الأعمال الذين تحولوا من أصحاب ملاليم إلى أصحاب مليارات فى سنوات قليلة، لتتركز ثروة البلاد كلها فى أيدى مجموعة لا تتعدى العشرات على أقصى تقدير، وهو ما دفع الرئيس الأسبق لأن يوجه لهم تهديدًا ذات مرة قائلًا: «هرجعكم تركبوا عجل زى زمان»!! لكن الحقيقة أن الممارسات نفسها استمرت، والمليارات زادت فى البنوك، دون منطق ولا تبرير، حتى أصيب بعضهم بجنون العظمة، وظن أنه يستطيع أن يقول للشىء كن فيكون.. وكان هؤلاء بعينهم هم الذين قصدهم عالم الاقتصاد الراحل د. محمود عبدالفضيل فى كتابه «رأسمالية المحاسيب».. إن ما قاله الرئيس بالأمس من ضرورة تشجيع أصحاب المصانع غير المرخصة هو كسر لهذا الاحتكار الذى قام به البعض للفرص فى مصر.. فأصحاب هذه المصانع هم مصنعون فقراء.. لم تمولهم البنوك بقروضها، فلجأوا إلى تقليل نفقات الإنتاج والعمل من «بير السلم» والهرب من الضرائب، وإنتاج منتجات رخيصة تستطيع تلبية احتياج المواطن البسيط.. أصحاب هذه المصانع يحمد لهم أنهم أقدموا على التصنيع، فى حين يفضل بعض أصحاب المليارات كنز الذهب وتهريب الأموال إلى الخارج، والبقاء بلا عمل أو استثمار فى انتظار غرق السفينة لبيع حطامها والبحث عن الكنوز تحت الأعماق.. من بين أصحاب هذه المصانع ستجد الموهوب، وصاحب المبادرة، وصاحب الفكرة الجديدة، والقابل للتطور، ومن يستحق أن تشاركه البنوك بأموال المودعين ليكبر ويفيد المجتمع.. وهو ما يعنى أن الدولة لها رأى ورؤية، وأنها تسعى لتحقيق فكرة العدالة فى الفرص، وأظن أن وزارة الصناعة والبنك المركزى عليهما أن يسارعا لتنفيذ توجيه الرئيس السيسى بمساعدة أصحاب هذه المصانع، ومنحهم الفرصة للتطور والنمو بعد أخذ الضمانات الكافية.. إن هذا الحديث عن ضرورة مساعدة النماذج الجادة والراغبة فى خدمة مجتمعها يقودنى للحديث عن الفارق بين رجل الصناعة أو المستثمر وبين صاحب الثروة أو العاطل بالوراثة.. والسبب أن رجل الأعمال الحقيقى لا يتوقف عن العمل لحظة واحدة من حياته، وعن افتتاح المشروع تلو المشروع، ولا يكون هدفه الربح فقط، وإلا انتقص هذا من شرفه كرأسمالى، لكن هدفه يكون تحقيق الربح إلى جانب إفادة المجتمع، والإضافة للمعرفة الإنسانية، ولو أنك نظرت لقائمة أغنى أغنياء العالم لوجدت رجالًا مثل «إيلون ماسك» و«جيف بيزوس» وقبلهما كان «بيل جيتس» و«ستيف جوبز» لوجدت أن هؤلاء مخترعين وعلماء حولوا أفكارهم لمنتجات نقلت البشرية عشرات السنوات للأمام، وأصبحوا من أصحاب المليارات الحلال فى سنوات قليلة، ومع ذلك لم يتوقف واحد منهم عن العمل يومًا واحدًا، والتزم كل منهم بنمط حياة بسيط يساعده على العمل لا على التفرغ للمتع وقضاء ليالى ألف ليلة وليلة كما يفعل البعض عندنا.. بل إن «إيلون ماسك» الموصوف بأنه صاحب أكبر ثروة فردية على مر التاريخ لا يملك منزلًا خاصًا به!! ويفضل أن يسكن فى مسكن بالإيجار وأن يوجه ثمن المنزل الفاخر لمشروع جديد رغم أنه يملك عشرات المليارات من الدولارات تزيد فى كل صباح يفتح فيه عينيه بمقدار ثابت ومعلوم.. إننى أقارن هذا بما ذكره رجل الأعمال حسن راتب فى التحقيقات معه عن جانب من ثروته وممتلكاته العقارية.. وأقول ماذا لو أن جانبًا من هذه الأصول العقارية تحول إلى مصانع يعمل فيها الناس وتسدد عنها الضرائب، وتضيف للناتج القومى، وأعرف أن الرجل ليس النموذج الوحيد من رجال الأعمال لدينا، الذين توقف بعضهم عن العمل، بعد أن راكموا المليارات من خير هذا البلد، وتحولوا إلى عاطلين بالوراثة.. لا يفيدون المجتمع لا بخبراتهم ولا بثروتهم التى لم يكونوا ليكسبوا واحدًا على عشرة منها لو لم يكونوا يعيشون فى هذا البلد.. وأتذكر نموذجًا مثل طلعت حرب كان يعتبر أن عمله فى الاقتصاد مهمة وطنية، وكان هدفه خدمة الوطن، لا البحث عن الربح، وأتذكر نموذجًا مثل محمود العربى، كان يعيش حياة متقشفة، ويخصص لنفسه راتبًا ثابتًا، رغم أنه صاحب مليارات، ويسكن فى شقة سكنية رغم أنه يستطيع بناء عشرات القصور، ويركب سيارة موديل سنة ٢٠٠٠ حتى وفاته رغم أنه يستطيع شراء عشرات السيارات.. لأن الرجل ببساطة يعلم أن له رسالة.. وأن رسالته هى استثمار كل قرش يملكه فى بناء مصانع جديدة وفتح مئات البيوت ودفع الضرائب والإضافة للناتج القومى، والتبرع لأعمال الخير.. لذلك بكاه الناس، وترحموا عليه وسيظلون يترحمون عليه سنوات طويلة لأنه أعطى على قدر ما أخذ وأضاف بقدر ما أثرى.. وكان صاحب رسالة لا طالب منفعة وكان باحثًا عن المعنى لا باحثًا عن اللذة.. وأظن أنه أفلح وخاب غيره.. فليس كل ما يلمع ذهبًا وليس كل صاحب مال هو رجل أعمال حقيقى.. وليس كل متشدق بالوطنية وطنيًا حقيقيًا.. فالوطنية تحددها الأفعال لا الأقوال وما أكثر أصحاب الأقوال فى زمننا هذا.