معنى بورسعيد
أمس الأول كان ذكرى معركة بورسعيد التى حملت اسمًا عاطفيًا هو «عيد النصر» انتصرت مصر على العدوان الثلاثى عليها والذى أراد عقابها على تأميم قناة السويس.. على عكس انطباعات الكثير من غير الدارسين كان الرئيس عبدالناصر سياسيًا براجماتيًا لأقصى درجة.. كان سياسيًا عظيمًا أدرك التغيرات فى العالم واستفاد منها لمصلحة بلده.. كل ما جرى منذ التخطيط لثورة يوليو كان قراءة ذكية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.. أدرك عبدالناصر ورفاقه أن بريطانيا وفرنسا لم تعودا القوتين العظميين فى العالم.. وأن قوى أخرى تطالب بنصيبها فى إدارة العالم بعد أن ساهمت فى إنقاذه من بطش قوات المحور.. فى هذه الأجواء قامت ثورة يوليو وأنهت النظام السياسى بشقيه، «الملك» المحسوب على المحور المهزوم، و«الأحزاب» المرتبطة بترتيب الإنجليز للوضع الداخلى فى مصر.. الرؤية الوطنية لثورة ٢٣ يوليو فرضت عليها معاداة الأحلاف الغربية ومحاولة الاستفادة لأقصى درجة ممكنة من التناقضات بين قطبى العالم الجديد الذى يتشكل.. فى هذا الجو أجرى جمال عبدالناصر حساباته وتوصل إلى أنه يمكن أن يمر سالمًا بقرار تأميم قناة السويس.. لم تكن الفكرة فى العوائد الاقتصادية فقط والتى تحتاجها مصر لتمويل خطط تنمية طموحة.. إلى جانب العائد الاقتصادى كانت هناك فكرة أن تصبح القناة فى حماية مصر.. لا ممرًا دوليًا فى حماية بريطانيا كما كان الحال طوال ٧٢ عامًا.. وقعت دول العدوان الثلاث بروتوكول تعاون بينها.. كانت الخطة أن تدخل إسرائيل سيناء فتتدخل إنجلترا وفرنسا بدعوى حماية القناة.. رفضت مصر وجود القوات الإنجليزية والفرنسية وسحبت قواتها من سيناء دون اشتباك.. كان القرار تركيز الجهد على إزعاج القوات الإنجليزية والفرنسية فى بورسعيد تحديدًا، والتى كانت مركزًا للقوات الإنجليزية الأكثر عددًا.. اختفت القوات النظامية وارتدى المقاتلون الزى المدنى وتولت المخابرات المصرية قيادة المعركة.. على الأرض كان هناك الضباط الذين قادوا العمل الفدائى منذ ما قبل ثورة يوليو وبرزت أسماء أصبحت من القيادات الكبيرة فيما بعد.. فى المرحلة الأولى قاد العمل سمير محمد غانم ثم عبدالفتاح أبوالفضل والملازم أول محمد فائق الذى صار وزيرًا للإعلام فيما بعد وشخصية سياسية كبيرة.. كانت البطولات الحقيقية للمواطنين العاديين،، وكان أعظم البطولات أثرًا ما قام به «السيد عسران»، كان مراهقًا فى السابعة عشرة من عمره قُتل أخوه فى الهجوم الإنجليزى على المدينة.. قرر الانتقام له بطريقته الخاصة.. حصل على قنبلة يدوية وهداه تفكيره أن يضعها فى رغيف خبز ساخن ويتظاهر بأنه يأكله.. وقف فى الشارع فى انتظار ميجور «جون وليامز» رئيس مخابرات القوات البريطانية فى بورسعيد.. كان وليامز قد خدم فى بورسعيد قبل الثورة ويعرف خباياها وأسرارها ووجوه المقاتلين فيها.. كان وجوده خطرًا لابد من التخلص منه.. كمن له السيد عسران حتى مر بسيارة صغيرة يجلس فى مقعدها الخلفى.. خطر لعسران فكرة أن يمسك بورقة ويلقيها لـ«وليامز» من الشباك.. والتقط رجل المخابرات الطعم ظنًا منه أن الورقة تحتوى على معلومات عن المقاومة، سقطت الورقة فى أرض السيارة فانحنى وليامز ليلتقطها وهو ما أتاح الفرصة لعسران أن يقضم آخر قضمة من الرغيف ثم يلقيه فى السيارة.. كانت القضمة الأخيرة هى نزع فتيل الأمان من القنبلة التى انفجرت وسببت إصابات كبيرة للميجور نتجت عنها وفاته.. ذهب عسران للضابط المسئول عنه وهو يبكى قائلًا إن ثأره مع الإنجليز لم ينته بعد، ورفض أن يحصل على مبلغ مالى منحه الضابط له قائلًا إن الوطنية ليس لها مقابل مادى.. بعض قصص المقاومة تمت المبالغة فيها بحكم طبائع الأمور.. لكن المهم هو النية وليس النتيجة.. فالمعركة كانت معنوية وسياسية فى المقام الأول، ولا أحد يمكنه أن يتخيل تفوق مصر على القوتين العظميين فى العالم عسكريًا.. من القصص المؤثرة جدًا قصة «جول جمال» وهو طالب سورى درس فى الكلية البحرية فى مصر، وعندما وقع العدوان انضم هو وزملاؤه السوريون كضباط مقاتلين فى الجيش المصرى.. اشتبكت زوارق الطوربيدات التى كان يقود أحدها مع مدمرة فرنسية بهدف إغراقها، وبعد الانتهاء من العملية هاجمتهم الطائرات الفرنسية وأغرقت سرب الزوارق بأكمله، تقول رواية أخرى إن جول جمال قام بعملية انتحارية ودخل بزورقه فى جسم البارجة الفرنسية، وأحدث فيها أضرارًا جسيمة.. أيًا كان السيناريو فقد كان جمال وزملاؤه أبطالًا ماتوا فى سبيل معنى كبير آمنوا به.. كرمته مصر وأنتجت فيلمًا يجسد بطولته لعب فيه أحد أشقائه دوره وشاركه البطولة أحمد مظهر ونادية لطفى وأخرجه السيد بدير.. حتى الثمانينيات كنا ندرس قصته فى مناهج التاريخ ولا أعرف كيف هو الوضع حاليًا.. كان لإبراهيم الرفاعى وزملائه دور فى الهجوم على مخابئ الدبابات البريطانية وتدميرها بصواريخ محمولة على الكتف، ولم يسجل التاريخ نتائج العملية ولكنها فى كل الأحوال بطولة كبيرة لشباب وضعوا أرواحهم على أكفهم.. كان من الأبطال أيضًا «جواد حسنى» الذى يحمل اسمه شارع شهير من شوارع وسط البلد.. كان طالبًا فى الحقوق وألقى الفرنسيون القبض عليه وتم تعذيبه ليعترف بأسرار المقاومة لكنه رفض وسجل قصته فى المعتقل فى كتاب حمل اسم «عشت من أجل مصر»، مات جواد فى المعتقل فى ظروف غامضة ولم أصادف كتابَه مرة واحدة فى حياتى على كثرة ما رأيت من كتب.. كانت الفكرة من المقاومة أن يشعر الإنجليز والفرنسيون أن إقامتهم حول القناة لن تكون نزهة وأنهم سيدفعون لها ثمنًا غاليًا.. كسب جمال عبدالناصر رهانه وأصدر الاتحاد السوفيتى إنذارًا قاسيًا لإنجلترا وفرنسا للانسحاب من القناة.. لم تشأ أمريكا أن تترك الساحة خالية للاتحاد السوفيتى فأصدرت إنذارًا آخر أقل حدة لكنه يحمل نفس المضمون.. كانت معركة السويس علامة النهاية على وجود بريطانيا كقوة عظمى وعلامة ميلاد نظام عالمى جديد ثنائى القطبين.. خرجت مصر من المعركة رابحة بكل المعايير وبدأت عشر سنوات ذهبية فى تاريخ مصر انتهت فى يونيو ١٩٦٧ نهاية قاسية.. يبقى من ذكرى النصر أن فى إمكان مصر أن تحقق مكاسب تليق بها عندما يتولاها حكام يدركون قيمتها وما تستحقه على خريطة العالم.. ويبقى من ذكرى المقاومين أنهم مصريون وهبوا حياتهم من أجل معنى كبير، وأن علينا أن نستوحى قصصهم لنقاوم بها قصص الممثل الأسطورة والمغنى الهضبة والمطربة حليقة الرأس.