رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفرعونية والإسلام.. عقل مصر وروحها

احتفالات مصر بآثار ملوكها القدامى تزامنت مع حالة من الصحوة الوطنية، بدا أن الاحتفالات ليست معلقة فى الفراغ، هى جزء من حالة استفاقة تشهدها مصر، هذه الاستفاقة تعبر عن نفسها فى سباق الإنجازات العمرانية والصناعية والزراعية، وتحديث الإدارة الحكومية، وتعظيم أصول الدولة المصرية، والمطالبة بإصلاح الخطاب الدينى، والوعى بخطورة الاستخدام السياسى للدين، والحفاظ على الوسطية المصرية التى افتقدناها فى العقود القليلة الماضية.. هذه الاحتفالات فضلًا عن دورها فى التسويق السياسى والسياحى تذكر المصريين بماضيهم العريق.. حين كانت مصر دولة قوية تؤثر فى محيطها وتملك نوابغ فى مجالات العلوم والفنون والحرب والآداب.. ومن ثم فإن ما نستوحيه من العهود الفرعونية القديمة هو روح النهضة وليس تفاصيلها التاريخية.. لقد بلغ الحماس ببعض الغيورين على الشخصية المستقلة لمصر أن طالبوا بتدريس اللغة المصرية القديمة فى المدارس، وهو طلب يبدو مبالغًا فيه، فما فائدة تدريس لغة لا يتكلمها أحد فى العالم؟؟ إن تدريس الإنجليزية والألمانية والصينية والفرنسية يبدو أكثر فائدة لنا فى الاندماج فى الحضارة العالمية والمنافسة الاقتصادية.. إن الأفضل لنا هو أن نطالب بتدريس التاريخ الفرعونى والآداب الفرعونية فى المدارس، أو أن نطالب بتدريس كتاب فجر الضمير لجيمس هنرى بريستد، الذى يؤرخ للإنتاج الأخلاقى والفكرى لحضارتنا القديمة كما لم يفعل أحد.. يمكننا أيضًا أن ندرس وضع المرأة فى حضارتنا القديمة وكيف كان الرجل يحترمها ويقدرها وينصاع لحكمها لو تولت الحكم.. ومعنى هذا كله أننا نريد أن نفكر بعقل فرعونى لا بلسان فرعونى.. وأن نركز على جوهر الحضارة القديمة لا على شكل الفراعنة القدماء.. والمعنى أن تكون مصر فرعونية العقل وأن تأخذ من الفراعنة معانى القوة والسيادة والانتصار للعلم والاهتمام بالفن وإحياء الصناعة والزراعة، وهو ما يمكن تلخيصه بأن تكون مصر فرعونية العقل.. وأن تظل عربية اللسان، فاللغة العربية حقيقة راسخة فى حياتنا منذ قرون، ومصر دولة رائدة فى عالمها العربى، والعيب لم يكن أبدًا فى اللغة العربية ولكن فيما نأخذه من اللغة العربية، لقد حمل لنا المثقفون الشوام فى القرن التاسع عشر فنون المسرح والصحافة عبر اللغة العربية، ولولا مثقفون مثل يعقوب صنوع وخليل اليازجى والأخوان قبانى وبشارة تكلا وجورجى زيدان لما عرفنا المسرح ولا الصحافة فى مصر إلا بعد سنوات طويلة.. العربية هى لغة أم كلثوم وعبدالوهاب وشوقى وحافظ ومحمد رفعت ومصطفى إسماعيل والمنشاوى.. وبالتالى فالعيب ليس فى اللغة ولكن فيما تحمله اللغة من مضامين.. لقد انتهت إلى غير رجعة فترة الغزو الثقافى لمصر ضمن ما عرف بـ«الصحوة الإسلامية» واعترف من صنعوها بأنها كانت صحوة مكذوبة خططت لها أجهزة المخابرات الغربية لأهداف سياسية، وقد انتهت هذه الفترة السوداء بحلوها ومرها «الحقيقة أنه لا حلو فيها» وأسقط المصريون آخر آثارها تحت أحذيتهم حين خرجوا فى ٣٠ يونيو، لكن هذا لا يعنى أبدًا أن نخاصم هويتنا العربية ولا إسلامنا الحقيقى ذا الصبغة المصرية.. ذلك أن الحضارة المصرية عبارة عن طبقات جيولوجية متراكمة، بعضها يحوى معادن نفيسة وبعضها يحوى ما هو أقل.. لكن كل الطبقات جزء من تكوين التربة المصرية وينتمى لها.. إن هذا يقودنى للحديث عن منشور يروجه بعض المتطرفين دينيًا والقاصرين عقليًا، المنشور مقتبس من كتاب للتكفيرى رفاعى سرور، وهو جزء يسب فيه الحضارة الفرعونية ويتهمها بالكفر، وهذا ليس غريبًا على التكفيريين الذين يعادون فكرة الوطن من الأساس، ويتمتعون بجهل مركب بعلوم التاريخ والحضارات وكل شئون الثقافة بشكل عام.. ولا يدرك هؤلاء الجهلاء أن المصريين القدماء هم أول من عرفوا فكرة الدين والتوحيد، وأنهم أثروا فى فهم المنطقة كلها الدين بما فيها الجزيرة العربية، وأن هاجر أم إسماعيل أبوالعرب هى أميرة مصرية، وأنها بلا شك نقلت معارفها الدينية لأحفادها من العرب المستعربة، وأن الله سبحانه وتعالى حين أنزل القرآن على رسوله الكريم أقر كثيرًا من المعارف الدينية التى كانت موجودة لدى العرب القدماء، مثل الصيام، والحج، والوضوء.. بمعنى أن الإسلام ألغى الممارسات الخبيثة لدى العرب، وأقر الممارسات الطيبة، ولا شك أنه كان للمصريين القدماء تأثير على هذه الممارسات الطيبة التى أقرها الإسلام ومنها فكرة الصيام، أما فرعون موسى الذى روى لنا القرآن مصيره المظلم، فهو شخص واحد أساء التصرف، وتم عقابه، لكنه لا يمثل كل حكام الأسرات الثلاثين التى حكمت مصر.. والذين يبلغ عددهم المئات.. لكن التكفيريين والمتطرفين لا يسعدهم أن يروا مصر قوية، ولا أن يروها تفتخر بنفسها، وتستعيد ذاتها.. لذلك يستخدمون أسلحة متنوعة.. كان الادعاء بكفر الفراعنة وبأنهم هم قوم عاد أحدها.. وهو ادعاء جاهل صدر عن جهلاء وروجه جهلاء.. ألا ساء ما يفعلون.