رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دفاعًا عن التنوير

قبل أن أتطرق لهذا الموضوع الشائك، أبدأ بطلب السلامة للأستاذ أحمد عبده ماهر المحامى والباحث، وأسأل الله أن يتم الوصول إلى صيغة تضمن إعفاء الرجل من حكم قد صدر بحبسه فى تهمة وجهت له تتهمه بازدراء الأديان.. ولعل هذه الواقعة الخطيرة، وما يدور حولها من نقاش يدفعنا لمحاولة وضع النقاط على الحروف فى أفكار محددة.. ولعلى أبدأ بالقول إن مصطلح «التنوير» نفسه شاع حتى تم ابتذاله خلال السنوات الأخيرة، فالتنوير فلسفة عقلية ورؤية شاملة تصدى لها كبار الفلاسفة والمفكرين فى أوروبا حتى خرجوا بالإنسانية من ظلام العصور الوسطى لرحابة العقل الإنسانى.. ومن ثم فالتنوير عملية أوسع من تقديم برامج إعلامية تناقش بعض الأحاديث النبوية أو النصوص الفقهية من على السطح، بحكم ضيق الوقت، وطبيعة الوسيلة.. وثانى هذه الأفكار أن إصلاح الخطاب الدينى، هو عملية مركبة، وجدلية، وتراكمية، تستغرق سنوات طويلة، وبالتالى فإن الاستعجال اللحوح فى بعض البرامج، وحسابات التواصل الاجتماعى، لإصلاح الخطاب الدينى، قد يكشف عن عدم فهم طبيعة الإصلاح، أو عن رغبة فى المزايدة، أو بحث بعض الإعلاميين عن دور، أو عن منفعة هنا، أو هناك.. وثالث هذه الأفكار أن بعض من قدموا أنفسهم على أنهم «تنويريون» يقدمون فهمًا مبتسرًا للتنوير ولإصلاح الخطاب الدينى منذ ثورة يناير.. حيث تسير أصوات بعينها فى اتجاه إعادة إنتاج لخطاب تيار القرآنيين، وهو تيار فكرى يتشكك فى صحة تدوين السنة النبوية الشريفة، ويطالب بالاعتماد على القرآن فقط، وقد قام «بعضهم» بالسطو على الإنتاج الفكرى للمفكر الراحل جمال البنا كاملًا وراح ينتحله ويبيعه فى حلقات تليفزيونية على قنوات أمريكية حينًا وخليجية حينًا آخر دون الإشارة لإنتاج الرجل لسبب أو لآخر.. ورابع هذه الأفكار.. أن هذا الابتسار ينتقص كثيرًا من فكرة إصلاح الخطاب الدينى، حيث هى فكرة تقوم على إعمال العقل، وتحقيق مقاصد الشريعة، وكانت لها دائمًا رموز من علماء الأزهر الشريف مثل الإمام محمد عبده، والشيخ عبدالمتعال الصعيدى، والشيخ محمود شلتوت.. وبالتالى فأبواب إصلاح الخطاب الدينى متعددة، وليست هى الباب الواحد الذى يريد بعض مقدمى البرامج فى القنوات الأمريكية أن يقنعونا بأنه الباب الوحيد.. وخامس هذه الأفكار.. أن العنصر الحاسم لقبول الناس أى فكرة هى أن تكون منزهة عن الهوى وعن الغرض، وأن الفكرة إذا تحولت إلى سلعة يبيعها صاحبها تفقد قيمتها لدى الناس، وينفتح الباب واسعًا للتشكيك فى الفكرة نفسها، وليس فقط فى صاحبها الذى يعرفه الناس كصاحب منفعة.. وسادس هذه الأفكار أن المثل يقول «امشى عدل يحتار عدوك فيك» والمعنى ألا تمنح الفرصة لمن يعاديك فكريًا أن «يصطادك».. وأن هناك فرقًا بين «النقد» والهجوم.. وأن اللغة الموضوعية، والعلمية تحمى صاحبها.. وهناك فرق بين أن تكون لى عشرات الملاحظات على فقيه معين، وبين أن أخرج على الناس لأسب هذا الفقيه، فى الحالة الأولى أكون قد أضفت للمعرفة، وفى الحالة الثانية أكون قد ارتكبت جريمة السب والقذف وأضررت بالفكرة التى أدافع عنها.. والفكرة السابعة أن الاشتغال بالفكر الدينى والتراث هو مهمة الأكاديميين والباحثين المتفرغين، وللأسف الشديد إننا نفتقد هذه العقول اللامعة بسبب سنوات التسلف، وتجريف الجامعات، وإن معظم من يتصدون لقضية التنوير لدينا هم أقرب إلى «الإعلاميين» و«النشطاء»، ورغم تحلى بعضهم بالشجاعة، إلا أن ثقافة معظمهم سطحية وغير متخصصة. وثامن هذه الأفكار.. أن البحث فى مجال حساس مثل الفكر الدينى. ليس محله صفحات الفيسبوك، ولا حلقات التليفزيون، وما زلت أذكر أن المفكر الكبير د. حسن حنفى ظل ستين عامًا من حياته يرفض الحديث لوسائل الإعلام، معتبرًا أن الفكر مكانه جدران الجامعة وصفحات الكتب وقاعات الدرس.. وليس صفحات الصحف، وحلقات مصارعة الديوك فى برامج التليفزيون.. وتاسع هذه الأفكار أن ثمة تعجلًا لحوحًا من بعض من يرتزقون من أفكارهم على إصلاح الخطاب الدينى، واتهام للآخرين بالتباطؤ، وكأن هذا الإصلاح دواء جاهز سيرسل المسئول لشرائه من الصيدلية، وبعدها يصبح كل شىء على ما يرام.. هذا التعجل لا يكشف فقط عن جهل جهول بماهية الإصلاح.. لكنه يكشف عن تعجل للمكاسب ونهم لها ورغبة فى المزايدة المجانية فى قضية تبدو آمنة.. ولعل هذه الممارسات المريضة عينها هى التى سخنت الأجواء حتى وصلنا إلى يناير ٢٠١١ بكل تداعياتها التى لا أظن أننا جميعًا نرغب فى تكرارها.. وهو ما يجعلنى أطالب الجميع بتبريد الملف، والتوقف عن المزايدة الرخيصة، والبحث عن المنافع باسم قضية تمس عواطف الناس، ومقدساتهم، كما أتمنى إيجاد وسيلة لإيقاف تنفيذ الحكم بحبس الأستاذ أحمد عبده ماهر تقديرًا لسنه، ولظروفه الصحية، ولحسن نيته، ورغبته فى الإصلاح، التى هى رغبتنا جميعًا، وإن اختلفت الطرق، وتفاوتت الدوافع.. والله أعلى وأعلم.