ما بين شمس وأيوب تُروِّض شاهيناز الفقي حِبال الصَّبر
"يا شمس أيوب" أو كما المثل الدارج يا صبر أيوب هو عنوان رواية الكاتبة "شاهيناز الفقي" الحائزة على جائزة إحسان عبد القدوس للرواية لهذا العام 2021، إذ تلفت الكاتبة أنظارنا إلى الربط المباشر بين العنوان والأثر المأمول للصبر على جميع شخصيات الرواية الذين لم يجدوا مخرجا من معاناتهم الحياتية سوى الصبر على تحملها سواء كانوا راضين عنها أو فرضت عليهم وإن كان في حقيقة الأمر لا أحد راضٍ عن حياته في المجمل .
ومن كلمة "كات" للمخرج التي بدأت بها الكاتبة روايتها، نستطيع أن نقرأ الرواية قراءة سينمائية بتتبع حركة الكاميرا التي جعلتنا نعدو خلفها وخلف المشاهد عبر 47 مشهد وكأنها كادرات تصب جميعها في حقبة واحدة تعبر عن زمن النص من بداية حكم السادات وحتى نهايته من انتفاضة الحرامية وصولا لمقتل السادات، حيث اهتمت بوصف حالة الفوضى التي شابت تلك الفترة وانطبعت على الشخصيات وحال المجتمع بشكل عام .
لذا نجد أنفسنا في حركة دائمة في الأماكن الحاضرة بقوة في الرواية من سهرات أم عبير إلى المجاميع بصورتهم الفوضوية، ثم من كافيتريا ريش حتى قهوة بعرة بعماد الدين، ثم من استوديو النحاس واستوديو مصر إلى عالم السينما المبهر مع صلاح أبو سيف ونيازي مصطفى وصولا لمحمود ياسين وسعاد حسني .
وقد جاء حوار الشخصيات باللغة العامية صادقا وحقيقيا من وصف ما يحدث بالقهوة وروادها وكيفية تقديم الطلبات للزبائن وكواليس التصوير بما يخدم النص، حيث درست الكاتبة كتابة السيناريو، لكنني أعتقد أيضا أنها بذلت مجهودا في البحث الأرشيفي عن أحداث مماثلة أو تقصت من أناس عاصروا تلك الفترة أو ربما من مشاهدة الأفلام والمسلسلات التي تضمنت مشاهد من هذا النوع، لأنه من وجهة نظري أن مشاهدة المسلسلات والأفلام سواء كانت عربية أو أجنبية إن لم نخرج منها بفكرة أو هدف أو فائدة فقد كانت مضيعة للوقت .
كما نرى أن خطابات أيمن وصفي وزينب قد تداخلت بلغة تميل إلى الشعرية بأكثر من مستوى، كما برعت الكاتبة في تصوير مفارقة مشهدية حين لم تبكِ على موت زوجها ناصر وأسقطت حزنها على الغضب المكتوم حين قالت في صفحة 223: "يحمينا الغضب في أشد لحظات الضعف، يصيبنا الحزن بالهشاشة أما الغضب فيمنحنا صلابة تمنعنا من الانحناء، يعطينا قدرة على التحدي، بينما يسعى بنا الحزن دوما نحو الفناء" .
أعطت الكاتبة اهتماما خاصا بالتفاصيل الصغيرة حين التقطت عيناها القطط والكلاب بالشوارع وهما يعبران الطريق ويبحثان عما يأكلانه من صناديق القمامة، فنجد أن معظم المشاهد لا تخلو من ظهور القطط، كما أنها لم تنسَ أيضا تفاصيل الدفء في تناول وجبات المحبة كما في صفحة 12 فتقول: "أهم شئ في الأكل هو النفس، كل منزل له رائحة تنبئ عن نفس صاحبته، والنساء روائح، البيت التي تغزوه رائحة الخبيز يكون لامرأة دافئة، ورائحة الطبيخ لامرأة جافة قاسية القلب، أما المحاشي فتنبئ عن نفس أم عبير تلك السيدة التي يكفي عطاؤها الكون" .
ومن ناحية أخرى جعلتنا الكاتبة نشاركها المشاهدات الحية عن العلاقات الانسانية بين المهمشين والفقراء وبين أصحاب النفوذ والسلطة، حيث ألقت الضوء على معاناتهم، فكانت السلطة حاضرة في عدة شخصيات ممثلة في النائب الذي أرغم نشوى على معاشرته لإخراج شمس من السجن وأيضا في صورة المخرج الذي حاك المؤمرات لارغام رشدي على ممارسة الشذوذ ليمنحه دور البطولة في فيلمه القادم وسلطة البدري بنفوذه وماله على شمس، وتجلت السلطة أيضا في مواطن عدة بالرواية بين المهمشين أنفسهم كما بين شمس وايمان ورشدي وروزا، وزيزي وعماد .
وفي مفارقة بارعة ألمحت لنا الكاتبة كيف تتشابه ملامح الفقراء والمجرمين عندما قالت في صفحة 175: "أن الفقراء يتشابهون حتى في ملامح الوجه وينجذبون لبعضهم البعض، ربما يكون نوع الغذاء أو المياه الملوثة التي يشربونها، أو يطمس ملامحهم ضيق الحياة وربما الخوف الدائم من المستقبل" .
أما شخصية يونس الذي أطلقت عليه الكاتبة لقب شيخ وهو لا يمت للدين بصلة، فهو شخصية منحرفة نفسيا حيث أغرقهم جميعا في الوحل حين منحهم فتاوي لكل المحرمات، يحلل الحرام ولا يرى غضاضة في الموبقات طالما تؤدي الوسيلة والغرض، ولديه لكل خطيئة مبرر ولكل الكبائر أسباب منطقية، ورغم تصرفاته المشينة فإن حواراته جميعها اتسمت بالحكمة والخبرة التي جعلتنا لا نكرهه رغم استنكارنا لتصرفاته المشينة .
استخدمت الكاتبة في عدة مشاهد الرموز والدلالات حين شبهت الفقراء بالفئران كما في صفحة 216 فقالت على لسان الشيخ يونس وهو يوجه كلامه لرشدي: "لما الفئران بتزيد وتزاحم الناس بيجوعوهم أوي ويدوقوهم لحم بعض، ويسيبوهم يخلصوا على بعض، وبعد كده حتى لو اتحط لهم أكل بيسيبوه وياكلوا في بعض"، وكأن الكاتبة تريد أن تقول لنا في النهاية أن الثقافة ليست في النخبة إنما في عموم الشعب، وأن هوية الشعوب تكمن في القاعدة العريضة التي نسميها الشعبوية، وهذه الطبقة بالتأكيد هي من تصوغ هوية البلد .