«تكوين مصر».. الشخصية المصرية صنيعة مبدأي الثبات والتغيّر
انشغل عديد من المُفكرين والكُتّاب المصريين على مدار التاريخ بمحاولة فهم الشخصيّة المصرية ومكوناتها والأسس التي ساهمت في صياغتها، لا سيّما أثر التاريخ القديم والحديث في تشكيلها ورسم ملامح هويتها. ويأتي كتاب "تكوين مصر" للمؤرخ المصري محمد شفيق غربال، الذي صدر في الخمسينيات، بعد خمس سنوات من تحول مصر من النظام الملكي نحو الجمهورية، كواحد من أبرز الكتابات المؤطِرة للفكرة.
ويعد محمد شفيق غربال، واحدًا من أبرز المؤرخين المصريين وصاحب مدرسة خاصة في الدراسات التاريخية رغم قلة مؤلفاته، إذ تتلمذ على يد المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي، واُختير عام 1951 لعضوية لجنة تضم 12 مؤرِّخًا ليكونوا مستشارين لليونسكو في شئون تاريخ العالَم، كما أشرَفَ على وضع الموسوعة العربية المُيسَّرة.
يُقدم غربال في كتابة نظرة بانورامية على العوامل التي أسهمت في بناء الشخصية المصرية منذ التاريخ القديم وصولًا إلى فترة الخمسينيات من القرن المنصرم، وهو في نظرته الشاملة تلك يرى أن مبدأي الثبات والتغيُر يصنعان التاريخ المصري، فمصر هي هبة المصريين التي تشكّلت من تطور الإنسان المصري على مدار التاريخ، مثلما هي نتاج الطبيعة الجغرافية التي أسهمت في وجود نظام اجتماعي ثابت يقوم على ضبط النيل.
ويتتبع المؤرخ المصري التغيرات في المجتمع المصري منذ نهاية العصر الجليدي مرورًا بعهد الإسكندر الأكبر ثم البطالمة فالرومان، متتبعًا أثر المسيحية والإسلام على مصر وما عقب ذلك من تحولات وصولًا إلى الأثر الذي أحدثه الاتصال بالحضارة الغربية إبان الحملة الفرنسية على الفكر المصري وما طرأ عليه من مستجدات.
يبدأ غربال من نهاية العصر الجليدي فيلفت إلى أن استجابة المصريين للتحديات المناخية مثّلت مرتكزًا في بنائهم، فمع التحول الطبيعي في أفريقيا وآسيا نحو الجفاف هبط المصريون إلى مستنقعات قاع الوادي، وحولوها إلى حقول تجري فيها القنوات والجسور، وبدأ المجتمع المصري قصة مغامراته وتبدلت النُظُم المصرية على أيدي شعوب مختلفة، ومع انقضاء العهد الفرعوني كان للمدينة المقام الأول، إذ تكونت حضارة جديدة من عناصر متباينة إلى أن تحولت مصر إلى نظام الدولة الحديثة.
يشير غربال إلى أن الإغريق واليهود هم الذين رووا عن مصر وتاريخها القديم، ومن ثم فرغم ترحيب المصريين بالإسكندر الأكبر الذي ضموه إلي أنفسهم وتعلقوا به، فقد نقلت الروايات الأجنبية عن المصريين في تلك الفترة صورة شعب متجهم عبوس عنيد محافظ يكره كل ما هو غريب عنه، وتعززت هذه الصورة في الحقب التالية؛ فقد صار المصريون أكثر عنادًا وصلابة بعد ما لاقوه من تهجين واستغلال وكراهية وحروب بين الأجناس في عهدي البطالمة والرومان.
كان دخول المسيحية إلى مصر بمثابة الخلاص للروح المصرية مما شابها من عبوس وصلابة، بعدما قادت إلى تحرر المصريين من رق المقدونيين والرومان، ودخلت المسيحية كمكون رئيس لمصر ليس باعتبارها عقيدة فريق من أبنائها فحسب؛ بل لأنها كونت النظرة الروحية لأبنائها كافة.
يستشهد غربال في توضيحه لأثر المسيحية في التكوين المصري بما قاله "هارناسك" مؤرخ العقيدة، حول ملاءمة المسيحية في مصر بين خصائصها وخصائص الدين القديم الأساسية لمدى أوسع مما شهدناه في أي بلدٍ آخر، فإن كان أكثر المصريين قد أصبحوا عند منتصف القرن الرابع مسيحيين، فمرد ذلك إلى أنهم خلقوا لأنفسهم دينًا قوميًّا من المسيحية، ولقحوا هذه الديانة ببقايا معتقداتهم القديمة وآمالها.
وانتقالًا لمحطة الأثر الإسلامي في التكوين المصري، يُبين غربال أن الثقافة الإسلامية في مصر بلغت مستوى وسطًا، واستمدت أصالتها من تماسكها وبقائها وعدم تلقيها لضربات قاصمة مثلما حدث في بلدان أخرى. ومع انتشار الثقافة الإسلامية احتفظت مصر بذاتيتها عن طريق الملاءمة بين العناصر الثقافية المستوردة وبيئتها الخاصة، وقد كان للعناصر المسيحية المصرية في البلاد سواء منهم في ذلك من احتفظ بمسيحيته أو تحول إلى الإسلام أثر في تحقيق هذه الملائمة، بدورهم في تعليم الوافدين على البلاد ما يُلائم ظروف مصر.
وفي حديثه عن أثر اليهود في الفكر المصري، يوضح غربال أن العقيدة اليهودية لقحت بالمسيحية، وأنَّ العهد القديم جزء من الكتابات الدينية المسيحية، وأنَّ الصورة التي وردت عن مصر والمصريين فيها انطبعت في عقل كل مصري، وعلى أساس ما كان لتلك الصورة اليهودية من أثرٍ في عقول الملايين من اليهود والمسيحيين، وفي موقفهم العقلي والعاطفي لا من مصر الفرعونية فحسب، بل من مصر عمومًا، يمكن القول بأن كتب العهد القديم قد عملت هي أيضًا في تكوين مصر، وإن كان ذلك على نحوٍ خاص بها.
ويُبرز غربال في حديثه عن تكوين مصر الأثر الذي أحدثه الاتصال بالغرب على هذا التكوين، فيعتبر الحملة الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر بداية التخلخل في الحياة الثقافية، فرغم قصر أمده ترك عواقب بعيدة الأثر في التاريخ، وكان حافزًا لولاة مصر في البدء على عملية عمارة وإنشاء بوسائلهم وطرائقهم الخاصة.
ويتطرق غربال إلى الجدال الذي أعقب الاتصال بالحضارة الغربية والذي ما زال حاضرًا إلى اليوم حول أي طريق ينبغي أن يسلكه المصريون، فالبعض ارتأى السير على نهج الحضارة الغربية في جوهرها أو في قشورها، وآخرون ارتأوا الاهتداء بعصور مضت مثل عصر رمسيس الثاني، أو عصر هارون الرشيد، أو تقشف صدر الإسلام، أو إلى الجمع والخلط بين محاسن ما يمكن أن نلتقطه كافة من هنا أو من هناك.
وفي هذا الصدد ارتأى المؤرخ المصري أن ليس ثمة موقف حاسم ينبغي على المصريون اتباعه بلا رجعة؛ فقد تحدث ظروف في تاريخ الجماعات يتعين فيها اتخاذ قرارات حاسمة، ولكن لم يحدث أبدًا أنْ طرأ موقف كان لزامًا فيه الانحياز إلى رأي نهائي، أو موقف محدد المعالم لا رجعة فيه، فالجماعات في تطورٍ دائم، وإن اختلفت سرعة هذا التطور من آن لآخر، ولكن ما ينبغي دومًا التأكيد عليه هو أن التسوية النهائية لأمر مصر ستكون مع شعب مصر.