قال حقوق الإنسان قال
المفاهيم، بـ شكل عام، لا تتكون في الفراغ، وإنما تؤسس على بعضها، ولما نأسس المفهوم "س"، على المفهوم "ص"، يصبح "ص" دا إطارا حاكما لـ"س".
مثلا مدحت وجاره فاروق، بينهما علاقة يسودها "الاحترام"، الاحترام دا مفهوم، غير قابل إنه يبقى مطلق، إنما بـ يتأسس على مفهوم تاني، وربما مفاهيم.
لو أسسنا مفهوم الاحترام هنا على القانون، فـ يبقى كل منهما يحترم الآخر، طالما إنه لم يخرق هذا القانون.
في الحالة دي: لو مدحت عنده ابن نجح في الثانوية العامة، وجات مدام مدحت ونساء الأسرة رقعوا الزغاريد وجابوا طبلة وشغلوا الدي جي، يبقى الأستاذ مدحت لا يحترم الأستاذ فاروق جاره، ومسبب له إزعاج، ومعطله عن حياته.
بينما لو مفهوم الاحترام مؤسس على العشم والأخوة، يبقى مدحت هنا ما عملش حاجة تنم عن عدم الاحترام، بل إنه فاروق لو اعترض على صخب الاحتفالات، يبقى هو اللي مش محترم مدحت، وعايز يعكنن عليه في فرحة العمر.
دا طبعا مثال، الأمور عادة بـ تبقى أعقد من كدا.
لما نبص لـ الحرية كـ مفهوم، فـ هي محتاجة تتأسس على مفهوم آخر، يكون إطار حاكم ليه، لـ إنها لو اتشكلت في الفراغ، فهي غير قابلة لـ التحقق، نتيجة تعارض ما يريده البشر، تقريبا في كل زمان ومكان.
عشان كدا بـ أقول إنه مفيش حاجة اسمها "الحرية"، لـ إنك بـ مجرد ما تأسسها على مفهوم تاني، يكون إطار حاكم ليها، ما بقيتش حرية، لـ ذلك، بـ أفضل استخدام تعبير "الحدود"، ويبقى الكلام عن حدود واسعة/ حدود ضيقة، حدود مريحة/ حدود خانقة، وهكذا.
إنما دي قضية لغوية، مش فارقة، سميها حرية، سميها حدود، سميها تيسير فهمي، المهم هتأسسها على إيه؟
فيه مشكلة تتعلق بـ الحرية تحديدا، وهي إنه عادة، بـ تتأسس على مفاهيم، هي بـ دورها، محتاجة تتأسس على مفاهيم تانية، فـ يبقى الأمر معلقا في الفراغ.
زي إني أقول: أنت حر ما لم تضر، هنا أسسنا الحرية على مفهوم "عدم الضرر"، كويس، لكن الضرر وعدم الضرر، مؤسس على إيه؟ أصلنا في النهاية لازم نوصل لـمفهوم ممسوك، قابل لـ القياس بـ شكل كافي.
لما تؤسس الحرية على عدم الضرر، أصبح من يمتلك تعريف الضرر هو الوصي على الحريات، وواضع الخطوط الحمراء لها.
ولو قلنا إنه مفيش سلطة تحدد الضرر ولـ كل إنسان "الحرية" في تحديد ما هو مضر وما هو نافع يبقى أنا كدا بـ أسس الحرية على نفسها، ودي مغالطة منطقية.
نفس الشيء، لو أنا بـ أسس الحرية على مفهوم الحقوق، ما هي هي يا حسين، هي هي، حقوق إيه بس؟
الإعلان العالمي لـ حقوق الإنسان قائم على مبدأ، الناس جميعا سواء (أمام القانون)، حيلو، مين يحط القانون؟ ويحطه على أي أساس؟ ناهيك عن إنك مجرد ما حطيت قانون، أقريت بـ "عدم حق" أحدهم في سلوك مسلك ما.
هـ نرجع لـ الإعلان دا، إنما بـ أتكلم بـ شكل مبدئي، فكرة إنه فيه حقوق، يكتسبها الإنسان بـ مجرد وجوده على الأرض، هي فكرة طوباوية، قد تكون جميلة، لكنها، إن شاء الله يعني، لما نروح الجنة، تبقى تحصل.
ما يسمى "الحقوق" هو ما تحصل عليه بـ امتلاكك قوة ما (فلوس/ سلطة/ سلاح/ ....) أو ما "يمنحك" إياه مالك هذه القوة، وعملية "المنح" دي بـ تحصل وفقا لـ أجندته هو، مش طبقا لـ ما تراه أنت.
كما أنه لا يحدث وفقا لـ مبادئ "حقوقية"، لـ إن الحقوق متعارضة (حقي في أن أدخن وحقك في أن تستنشق الهواء النقي، حقي في التعبير وحقك في احترام مقدساتك، حقي في ممارسة طقوسي وحقك في عدم الإزعاج، حقي من الميزانية في توفير العلاج وحقك من نفس الميزانية في توفير التعليم، حقي في الحفاظ على هوية المجتمع وحقك في الحفاظ على هويتك الشخصية، مش هـ نخلص)
فـ يا أصدقائي، تأسيس مفهوم الحرية ذات المدلول المراوغ المزفلط، على مفاهيم أخرى لها نفس الدرجة من الزفلطة، يؤدي إلى دوخيني يا لمونة.
لا مفر، لا مفر، من التأسسيس في النهاية على أمور يمكن قياسها، من هنابـ تيجي أهمية "السلطة"، اللي بـ تعمل عملية "تنظيم" لـ المجتمع، فـ لازم نؤسس على مفهوم التنظيم، مش الحقوق ولا عدم الضرر ولا ديالو.
بس يا أسطى، فيه دول ربنا أنعم عليها، اتكلمت عن حقوق الإنسان، وبـ تحافظ عليها، وعملوا لها إعلان دولي مخصوص، وفيه هلم بره.
بص، هي دي صياغة أخلاقية شيك، إنما في النهاية، الموضوع مش "الحقوق"، إنما "التحديث".
المجتمعات الحديثة مدركة تماما إنه التنوع والتعدد من مسببات القوة، على عكس ما يظنه المتخلفون، من أن سيادة نمط واحد هو الأصلح.
المجتمع لما يسيب فصيل ما (حتى لو الغالبية) يفرض وصايته على الفصائل الأخرى فـ إحنا كدا بـ نخسر الفصائل الأخرى دي (حتى لو كانت أقلية).
مثلا مثلا، إنت لما تستبعد السود، وتعتبرهم مواطنين درجة تانية، شوف هـ تخسر قد إيه مواطنين، وبـ التالي هـ تخسر إنتاجهم.
تخيل حضرتك المنتج اللي قال على أحمد زكي إزاي الإسود دا يبوس البطلة؟ لو كلامه هو اللي مشي، كنا خسرنا نجم، مش بس خدم الفن، إنما آلاف البشر أكلوا عيش من وراه.
المجتمعات الحديثة بـ تفرض على نفسها أولوية، هي التوازن بين مكونات المجتمع، فـ "على قد ما تقدر"، تاني، "على قد ما تقدر"، تحمي القليل والضعيف، وتستغنى عن اللي مالوش لازمة، من أشكال التمييز، وتساعد الأفراد على إنهم يعيشوا حياتهم، من غير ما حد ينط لهم فيها.
فيه أمور أخرى كثيرة تندرج تحت بند التنظيم، إنما في النهاية، هذه الدولة وتلك المجتمعات ما عندهاش يا امه ارحميني، في تطبيق هذا التنظيم، وفي إنفاذ القانون، مهما أهدر من حقوق.
ممنوع يعني ممنوع، دا مش شغلك يعني دا مش شغلك، كله بـ ورق، وكله بـ رخصة، وكله خاضع لـ السلطات، وكله في إطار "النظام"، وكله تحت السيطرة.
فـ إنت كـ مواطن بـ تمشي ع العجين ما تلخبطوش، مع ذلك وإنت ماشي على هذا العجين بـ تغني: "أنا حر أنا حر إني أطير وأرفرف".
وهي دي الشطارة.
مش تقول لي حقوق وبتاع، كبرنا ع الحاجات دي.